الاحداث- كتب المحلل السياسي
لم يكن لقاء الرئيس جوزاف عون في بعبدا مع أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني مجرّد محطة بروتوكولية في روزنامة الزيارات الرسمية، بل تحوّل إلى منصة لإعلان قواعد سيادية صلبة، ترسم ملامح مرحلة لبنانية جديدة عنوانها: لا سلاح خارج إطار الدولة، ولا قرار يعلو على مؤسساتها.
منذ اللحظة الأولى، وضع عون ضيفه أمام معادلة واضحة: انفتاح على التعاون مع طهران، ولكن على قاعدة الندّية والاحترام المتبادل، وأن أي دعم خارجي مرحّب به حين يمر عبر المؤسسات الشرعية، لا عبر قنوات موازية تحمل السلاح وتفرض الأمر الواقع. الرسالة كانت مباشرة وصريحة، أعادت تثبيت أن شرعية السلاح مرهونة بقرار الدولة وحدها.
هذا الموقف جاء متناغمًا مع إقرار الحكومة مؤخرًا أهداف «خارطة الطريق» المدعومة أميركيًا، والتي ترمي إلى نزع سلاح المجموعات غير الشرعية في الجنوب عبر مسار تدريجي تقوده الدولة وتحت مظلة القرار 1701، بما يعيد بسط السيادة اللبنانية على كامل أراضيها.
عون، الذي يتقن المزج بين الانفتاح والحزم، حوّل المشهد من زيارة سياسية إلى خطوة تأسيسية في سياق ما يمكن تسميته “الجمهورية الثالثة”؛ جمهورية تعيد الاعتبار لاتفاق الطائف كمظلّة جامعة، وتضع الجيش والقوى الأمنية المرجعية الوحيدة في السلم والحرب. فالجمهورية الثالثة ليست انقلابًا على الدستور، بل تجديدٌ للعقد الوطني بروح أكثر وضوحًا وحسمًا في تحديد مصادر القرار والسيادة.
ولم يكن الرئيس جوزاف عون وحيدًا في تثبيت هذه المعادلة السيادية، إذ سبقه يوم أمس رئيس الحكومة نواف سلام في لقائه مع لاريجاني إلى موقف لا يقل وضوحًا وحزمًا. سلام، المعروف بدقّة كلماته ورصانته الدبلوماسية، أبلغ ضيفه الإيراني بأن لبنان لن يقبل بأي دور أو سلاح خارج إطار الدولة، وأن أي تعاون مع طهران أو سواها يجب أن يمر عبر مؤسساتها الشرعية حصراً. هذا الموقف الذي لاقى ارتياحًا داخليًا واسعًا، عُدّ بمثابة إعلان جرأة سياسية من رجل الدولة الذي يعرف متى يرفع الصوت دفاعًا عن الكيان، فكان بمثابة دعم معنوي وسياسي للرئيس عون في مسعاه لترسيخ نهج الجمهورية الثالثة. بهذا التناغم بين بعبدا والسراي، تتكرّس شراكة على أعلى مستوى، هدفها إعادة الهيبة للدولة وتحويل السيادة من نصوص دستورية إلى واقع مُعاش.
رمزية هذه اللحظة تتخطّى حدود البروتوكول. فبينما كان الاستقبال الشعبي للاريجاني على طريق المطار حاضرًا من قبل مؤيدي “حزب الله”، جاءت صورة بعبدا لتقدّم المعنى الأبلغ: التعاون مرحّب به حين يعزّز الدولة، والرفض قاطع لأي تجاوز لها. بهذه الرسالة، طمأن الرئيس الداخل بأن السقف واحد هو الجيش، وأبلغ الخارج أن الشراكة ممكنة بلا تبعية.
منذ انتخابه في 9 كانون الثاني 2025، وضع عون أولوية السلم الأهلي وحصرية السلاح في صلب برنامجه، وهو اليوم يبرهن أن هذه ليست شعارات، بل سياسة عملية قيد التنفيذ، حتى في أصعب اللحظات وأشدّها تعقيدًا. الحوار الداخلي هو أداته، والدعم الدولي هو رصيده، لكن القرار النهائي سيبقى يُصنع في بيروت، لا في أي عاصمة أخرى.
بهذا النهج، يخطّ الرئيس جوزاف عون، مدعومًا برئيس الحكومة نواف سلام، مسارًا جديدًا يعيد هيبة الدولة من خلال وضوح الرؤية وصلابة الموقف، ليضع لبنان على عتبة جمهورية ثالثة تكون فيها السيادة ممارسة يومية، لا مادة للخطابات، وحيث يبقى الجيش هو الضمانة، والدولة هي البيت الذي يحمي كل أبنائه بلا استثناء.