الاحداث - كتب شارل جبور في صحيفة نداء الوطن يقول:" لا أحد يناقش الرئيس نبيه بري في حقّه بالتموضع الوطني، فهذا حقه النابع من قناعاته وخلفيته ومشروعه وأفكاره ومصالحه. ولكن النقاش هو مع من يفترض أنهم في موقع الخصومة الوطنية مع الرئيس بري، وما زال القسم الأكبر منهم لا يميِّز بين ثلاثة أمور أساسية:
الأمر الأول، موقعه النيابي كرئيس لمجلس النواب، وهو ما يستوجب التواصل والتنسيق معه في سياق تنظيم العمل البرلماني، وهذا أمر طبيعي ومفهوم.
الأمر الثاني، موقعه التفاوضي باسم "حزب الله" كون واشنطن وغيرها من العواصم الغربية والعربية ترفض التواصل المباشر مع "الحزب" الذي يصنّفونه منظمة إرهابية، وهذا بدوره أمر طبيعي مفهوم.
الأمر الثالث، موقفه الوطني الذي لا يختلف عن "حزب الله"، وهنا بالذات مكمن المشكلة مع القسم الأكبر من خصوم الرئيس بري منذ العام 2005 إلى اليوم، والذين يعتبرون أن بري ضدّ "الحزب"، وأنه من الضروري دعمه وتقويته على حساب "الحزب"، وأنه على قاب قوسين أو أدنى من الابتعاد عن الحزب، وأنه صوت شيعي لبناني يختلف عن صوت الحزب الإيراني، وأنه لم يقاتل في سوريا، وأنه أوّل من قاتل "الحزب"، وأنه يلقى دعم عواصم القرار الغربية والعربية، وأنه مع اتفاق الطائف، والمعزوفة الحججية تطول(…)، وهذا ما هو غير طبيعي ولا مفهوم خصوصًا بعد أكثر من عشرين سنة على هذا التحالف الاستراتيجي.
وما تقدّم هو نسخة من كلام مكرّر منذ العام 2005، وقد نجح الرئيس بري في شقّ صفوف خصومه من خلال إيهامهم بأنه ضد "الحزب"، ويقولون، أي خصومه، إنه في الكواليس يتحدّث مثلهم وبلغتهم ولا بل يزايد عليهم، وهذا ما ينقله عنه أيضًا كل من يلتقيه من دبلوماسيين يصل بهم الأمر إلى حدّ تبني طروحاته والدفاع عنه.
ومن الخطأ الحكم على نيات الرئيس بري، أو التعامل معه انطلاقًا مما يقوله لزواره من الدبلوماسيين والخصوم، إنما الحكم يجب أن يكون دائمًا على النتائج لا على النوايا، على الأفعال وليس على الأقوال في الغرف المغلقة، والنتيجة أن بري منذ عشرين عامًا لم يتمايز قيد أنملة عن "الحزب" في موضوع ما يسمى المقاومة والسلاح، وهنا بيت القصيد، وكل الأعذار عن تجنبه الصدام داخل القرى بين "الحركة" و"الحزب" هي مجرّد حجج تخفي خلفها موقفه الفعلي المؤيِّد لما يسمى المقاومة وسلاحها.
ليس المطلوب إطلاقًا الصدام بين "حركة أمل" و"حزب الله"، وهذه الذريعة تعطى لتغطية الهندسة المتفّق عليها بين الفريقين برعاية إيرانية بعنوان تحكّم الشيعية السياسية بلبنان، والتفاهم بينهما عميق جدًا، حيث يتولى الحزب إدارة العمل المسلّح، وتتولى الحركة إدارة اللعبة السياسية.
ولأن الأمور تقاس بنتائجها، فإن الرئيس بري يتحمّل بالتكافل والتضامن مع "الحزب" مسؤولية ما أصاب البلد منذ العام 2005، أي تاريخ خروج جيش الأسد من لبنان، فلم يتمايز عنه لا في الحروب ولا في السياسة، وغطى حرب تموز 2006، وخرجا معًا من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى واعتبراها بتراء، وحاصرا معًا السراي الحكومي، واجتاحا معًا بيروت في 7 أيار 2008، وأقفلا معًا المجلس النيابي، وأسقطا معًا حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى، واللائحة تطول وصولًا إلى "حزب الإسناد" وما بعدها من تطابق تام في المواقف.
ومن يدافع عن الرئيس بري يقول إنه لم يقاتل في سوريا على غرار "الحزب"، فيما الحركة لا تقاتل لا في لبنان ولا في سوريا، فهذه مهمة "الحزب"، وإن قاتلت يندرج ضمن إطار الاستثناء، ولكن الأهم من قتال "الحركة" هو تغطيتها لقتال "الحزب" في سوريا.
ومن يدافع عن الرئيس بري أيضا يقول إنه لم ينتخب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية، ولكنه أقفل المجلس النيابي رفضًا لانتخاب غيره، ولم يتقاطع مع 14 آذار على أي مرشّح رئاسي، وعندما نضج انتخابه فتح المجلس النيابي، ولو كان صوته يبدِّل في المعادلة لما تردّد لحظة واحدة في انتخابه، ولم يتمايز عنه لا في تسمية رئيس حكومة ولا في استحقاق رئاسي، والاستحقاق الأخير أقوى دليل على موقفهما المشترك من تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية، إلى رفضهما تسمية الرئيس نواف سلام.
إن ما يجمع الرئيس بري و"الحزب" هو تحالف من طبيعة استراتيجية، وخطأ بعض خصومه أنهم يتأثرون بالشكليات، ويقتنعون بالحجج التي تعطى لهم من قبيل أنه حريص على تجنُّب الصدام الداخلي، وهذا غير صحيح كون التمايز لا يجب أن يؤدي إلى صدام، والخلاف المستعر بين "الحزب" وخصومه لم يدفعه إلى استخدام السلاح سوى في أيار 2008 بشكل موسّع وفي الطيونة بشكل جزئي، وحرصهما المشترك على تجنُّب نقل التمايز على الأرض سيدفعهما إلى السهر على هذا الأمر، وإذا كان هناك استسهال في استخدام السلاح، على الرئيس بري الانضمام إلى المطالبين في حصره بيد الدولة.
فالاشتباك على الأرض لن يحصل وهي مجرّد حجة، والمسؤولية الوطنية تتجاوز الحجج كلها، كما أن القناعات السياسية والفكرية تعلو ولا يعلى عليها، ولو كان الرئيس بري غير مقتنع بالخط السياسي الذي ينتهجه "حزب الله" لكان عبّر عن ذلك بصراحة تامة، وعدم تعبيره العلني ينم عن قبول ضمني بسياسات "الحزب كلها"، ومن ثمّ في حال سلمنا جدلًا بحجة تجنيب البيئة الشيعية الصدام الداخلي، فهل هذا يُبيح توريط البلد في حروب مع إسرائيل والشعب والسوري وفي الداخل؟ وهل يُبيح تعليق العمل في الدستور وتعطيل المؤسسات؟
والشعب اللبناني غير معني بصدام مسيحي - مسيحي أو سني - سني أو درزي - درزي أو شيعي - شيعي، إنما معني بأن يعود بلده دولة فعلية ومستقرة وآمنة ومزدهرة، ولا يستطيع الرئيس بري ان يحمِّل "حزب الله" منفردًا مسؤولية حروبه من العام 2006 إلى اليوم بقوله إن "الحزب" دمّر كل ما بناه حجرة فوق حجرة شيعيًا، فهو شريك في إيصال الشيعة ولبنان إلى ما وصلوا إليه، وما زال لغاية اليوم يفاوض مع توم براك بالنيابة عن "الحزب"، ويتبنى بالفواصل وجهة نظر "الحزب".
ولأن الأمور تقاس بالنتائج وليس بالحكي، فالنتيجة تتحدّث عن نفسها منذ العام 2005 إلى اليوم، وهي أنهما في تحالف استراتيجي بعنوان الشيعة أولًا لا لبنان أولًا وتنطبق عليهما مقولة الرئيس حافظ الأسد مع بعض التعديل: شعب واحد في حزبين، وما ورد في "ويكيليكس" قديمًا لا يتوقّف عنده "الحزب"، لأنه بكل بساطة جزء من عدة شغل توزيع الأدوار، وهذا الأمر متفاهم عليه بدقة تامة، وخلاف ذلك لا أحد يتحدّث مع الرئيس بري.
وطالما أن الرئيس بري يخشى التمايز تجنبًا للصدام وهذا ما يجعله يؤيد سياسات الحزب "على العمياني"، وطالما أنه لم يتمايز عن "الحزب "بعد أكثر من عشرين سنة وبعد كل ما أصاب البلد، فإن استمرار الرهان عليه خطيئة استراتيجية كبرى، والرهان المطلوب هو على مواصلة المطالبة باحتكار الدولة للسلاح، كما الرهان على الشخصيات الشيعية التي تريد لبنان دولة فعلية طبيعية.