Search Icon

السِّلاحُ إلى العَلَنِ في لَحظَةِ القَرارِ اللُّبنانِيِّ

منذ ساعتين

أقلام حرة

السِّلاحُ إلى العَلَنِ في لَحظَةِ القَرارِ اللُّبنانِيِّ

الاحداث- كتب أنطوان العويط

للمرّةِ الأولى، وبصوتِ الحكومةِ اللبنانيّةِ الصريح، كُسِرَ الصمتُ الطويل، وطُرِحَ السؤالُ المحوريُّ الذي لطالما أُجِّلَ أو دُفِنَ تحتَ ركامِ التسويات: ماذا عن سلاحِ "حزبِ الله"، وكيفَ السّبيلُ إلى استعادتهِ إلى كنفِ الدولة؟
لم تكُنْ جلسةُ مجلسِ الوزراءِ المنعقدة في الخامس من آب تمرينًا بيروقراطيًّا أو نقاشًا عابرًا، بل كانت، في الحقيقةِ، لحظةً سياسيّةً مفصليّة، لا بل تاريخيّة، ارتفعتْ فيها حرارةُ القرارِ إلى أقصى درجاتِها، وسقطتْ معها أقنعةُ التوازنِ الهشِّ بين دولةٍ سيادتها منتهكةٌ من قبل الاحتلال، ودولةٍ تبحثُ في الوقتِ عينهِ عن هويّتها السائبة، في ظلِّ سلاحٍ خارجِ الشرعيّةِ، يحكمُ من خارجِها، وكان أن أمسكَ مرارًا بمصيرِها من خارجِ مؤسّساتِها.
إنَّه تحوُّلٌ دراماتيكيٌّ في مقاربةِ أخطرِ الملفّاتِ إطلاقًا. فالسلاحُ، الذي لطالما دارتْ حولَهُ المساوماتُ في الغرفِ المُغلقة، انتقلَ إلى دائرةِ الضوء. بين خطابِ الرئيسِ جوزاف عون الصارمِ في عيدِ الجيش، وردِّ "حزبِ الله" عبرَ حملاتِ الانتقادِ والتشهيرِ وتحركاتِهِ الليليّة، وخطابِ أمينِهِ العامِّ الناريِّ المتزامنِ مع انعقادِ مجلسِ الوزراء، وموقف رئيس الحكومة نوّاف سلام الحازم، بدا وكأنّ البلادَ تقفُ على حافةِ بركانٍ يتأرجحُ بين الانفجارِ والانفراج.
الاصطفافُ الوزاريُّ حولَ مبدأ "الحصريّةِ التنفيذيّةِ" للسلاحِ، وجدولةِ تسليمهِ إلى الجيش، لم يكُنْ تفصيلًا بسيطًا، بل مؤشِّرًا على فرزٍ وطنيّ جديدٍ يُعيدُ رسمَ خريطةِ التوازنات. والحزبُ، الذي طالما اتّكأَ على شبكةِ تحالفاتٍ داخليّةٍ عريضة، يجدُ نفسَه اليومَ في عزلةٍ غيرِ مسبوقة، كما لم يحدُثْ معَهُ منذ عامِ 2005، مُحاصرًا داخليًّا كما خارجيًّا، في زمنٍ إقليميٍّ مختلف.
على الطاولة، خيارانِ لا ثالثَ لهما: إمّا دولةٌ تمضي في طريقِ استعادةِ ذاتِها وقرارِها، وتخطو نحو مشروعِ إعادةِ بناءِ الجمهوريّةِ من جديد، ولو على وَقْعِ إمكانيّةِ إحداثِ فوضى داخليّةٍ ومؤسّساتيّةٍ عارمة، وإمّا دولةٌ تنكفئُ، فتخسرُ ثقةَ شعبِها، ودعمَ العربِ والعالم، وتُغامرُ بعودةِ الحرب، وهذه المرّة في ظلِّ انقسامٍ داخليٍّ قد يجعلُ تداعياتِها كارثيّة.
لقد بات لبنانُ يقفُ عند حدِّ السيف. لم يَعُدْ هناك متّسعٌ للرماديّ. فالجمهوريّةُ تُستدعى إلى لحظةِ القرار... الذي اتّخذ، والسلاحُ لم يَعُدْ ملفًّا مؤجَّلًا.
في الواقع، وبالمقابل، يُدركُ "حزبُ الله" تمامًا حجمَ التبدّلاتِ التي عصفتْ بواقعِهِ السياسيِّ والعسكريّ، غيرَ أنّه لم يتهيّأ بعدُ للاعترافِ الكاملِ بهما أو التعاطي الصريحِ معها. 
فقد شكّلَ اغتيالُ حسن نصرالله نقطةَ تحوّلٍ لا يمكنُ تعويضُها، لا بشخصِهِ ولا بسلطتِهِ الواقعيّة. أمّا اتفاقُ وقفِ إطلاقِ النارِ الذي أُبرِمَ في نهايةِ تشرين الثاني، قبلَ أسبوعٍ من سقوطِ نظامِ الأسد، فقد جاءَ تطبيقًا فعليًّا للقرار 1701، واضعًا حدًّا لوجودِ الحزبِ العسكريِّ جنوبَ الليطاني، ومقيّدًا قدرتَه على الاحتفاظِ بسلاحِه أو إعادةِ بناءِ هيكليّتِه شمالَ النهر. 
ولعلّ التغييرَ السياسيَّ الذي حصلَ في قمّةِ السلطةِ اللبنانيّة، رئاسيًّا وحكوميًّا، بعد فترة وجيزة من الانقلابِ العسكريِّ في سوريا، جاءَ ليُكمِلَ الانقلابَ الإقليميّ. طهران أُخرجتْ بالقوّةِ من دمشق، ولبنانُ انتقلَ "سلميًّا" من تحتِ الوصايةِ الإيرانيّةِ، ما أفقدَ الحزبَ القدرةَ على التحكّمِ بالدولةِ ومؤسّساتِها، وجعلَه يخسرُ "شرعيّةً" كانت قد مُنحت له في عهدٍ رئاسيّ سابق.
ورغمَ إدراكِهِ لهذه التقلّباتِ العميقة، لا يزالُ "حزبُ الله" يرفضُ التخلّي عن سلاحِهِ، وتجلّى ذلك جهارًا ومجدّدًا في السابعِ من آب، في الجلسةِ الثانيةِ لمجلسِ الوزراء، حين فُتِحَ النِّقاشُ على صفحةِ الأهدافِ في مذكرةِ الموفدِ الأميركيّ توم بارّاك، بعد أن وضعَ الرؤساءُ الثلاثةُ ملاحظاتِهم وردودَهم عليها. فما إن بدأ التَّداولُ حتّى وقعَ المشهدُ المُرتقَب. وزراءُ الثنائيّ "أمل" - "حزبُ الله" يُغادرون القاعة، ويتضامنُ معهم، لمرّةٍ يتيمةٍ، الوزيرُ المستقلُّ فادي مكي. غير أنّ المشهدَ، على ما فيه من ضجيجٍ، لم يُغيّر في مسارِ القرارِ قيدَ أُنملةٍ: حصريّةُ السلاحِ أصبحت ثابتةً في محضرِ الدولة، وورقةُ الأهداف أُقرّت بدورِها، ولا رُجوعَ عنها تحت أيِّ ظرفٍ أو ضغطٍ. لقد كُتِبَ السطرُ الحاسم، وطُوِيَت صفحةُ المساومة.
لكنّ لعبةَ التعطيلِ لم تُدفَن. فمحاولاتُ إرجاءِ الإقرارِ استُحضِرَت بكلِّ أدواتِها، سياسيًّا وعلى الأرض، وستستمرّ. وجاء الدخول الإيرانيّ السافر على خطّ السلاح، ليحوِّلَ لبنانَ إلى صندوقِ بريدٍ لتبادُلِ الرسائلِ مع واشنطن، كورقةِ مُساوَمةٍ في بازارِ النووي.
المفارقةُ الصارخةُ أنّ ورقةَ الأهدافِ، التي صيغَت بمصلحةٍ لبنانيّةٍ شاملةٍ وصافية، وقدّمت إجاباتٍ وافيةً على كلِّ هواجسِ الحزبِ ومطالبِه، وُوجِهَت برفضٍ مُستَهلَكٍ ومُستَهجَن. فما أقرَّهُ مجلسُ الوزراءِ يتطابقُ تمامًا مع ما يُنادي به الحزب: انسحابُ إسرائيل، وقفُ العدوان، استعادةُ الأسرى، تثبيتُ الحدود... ومع ذلك، جاءت الخلاصةُ صلبةً وصادمةً: رفضُ النِّقاشِ في السلاحِ وتسليمِه للجيش، يعني ببساطةٍ أنّه لا أملَ في إعادةِ بناءِ الدولة، ولا نيّة في خوض هذه الطريق. هذه هي المعادلةُ التي حاولَ الحزبُ ترسيخَها كما فهمها كثرٌ… نقطةٌ على السطر.
يبقى أنّه، رغمَ كلِّ ما حصلَ وسيحصُل، خيارٌ واحدٌ مطروحٌ بواقعيّةٍ وعقلانيّة، هو الانخراطُ في مشروعِ الدَّولةِ. ذلكَ أنّ كلَّ البدائلِ الأخرى أصبحتْ خارجَ نطاقِ الممكن، وقد نضبَ منها الرصيدُ السياسيُّ وحتّى العسكريُّ، وباتتْ طريقًا إلى مزيدٍ من العزلةِ والانكفاءِ والموتِ، لِلبنانَ الكيانِ والدولةِ والشعبِ.
لكنّ الانعطافةَ المطلوبةَ ليستْ إجراءً تقنيًّا، بل تحوّلًا عميقًا في الوظيفةِ والدور. هي عمليّةٌ شاقّةٌ تتطلّبُ زمنًا ونضجًا، وتفترضُ خروجَ "الحزبِ" من منطقِ التحدّي ومواجهة الشرعيّة، والقبولَ بمبدأِ تسليمِ السلاح، لا بوصفهِ تنازلًا، بل باعتبارهِ شرطًا ضروريًّا للعبورِ من الهامشِ العسكريِّ إلى الفضاءِ المدنيّ، ومن منطقِ القوّةِ إلى منطقِ الدولة.
الزَّمَنُ المقبلُ هو كناية عن مُفترَقُ طُرُقٍ، وَسيَكُونُ َحافِلًا بالمُفاجآتِ، وَلُبنانُ أَمامَ قَرارٍ فاصلٍ: حِكْمَةٌ تَبني مُستَقبَلهُ، أَو فَوْضى تُطِيحُ بِكُلِّ آمالِه. لا مَهربَ مِنَ الاِختِيَارِ، وَلا بَديلَ عَنِ النُّهوضِ.