Search Icon

زيارات برّاك: امتداد للحرب الإسرائيلية بأساليب ناعمة

منذ 8 ساعات

من الصحف

زيارات برّاك: امتداد للحرب الإسرائيلية بأساليب ناعمة

الاحداث- كتب علي حيدر في صحيفة الاخبار يقول:"إذا كانت الحرب امتداداً للسياسة بوسائل أخرى، فإن الحراك السياسي الأميركي هو امتداد للحروب الإسرائيلية بوسائل أخرى.

وعليه، لا يمكن فهم زيارة المبعوث الأميركي توم برّاك للبنان خارج السياق البنيوي الذي يحكم الحركة السياسية الأميركية في أعقاب كل حرب أو عدوان إسرائيلي، خصوصاً تلك التي تفشل في فرض واقع ميداني حاسم.

وفي مثل هذه الحالات، لا ينبع الحضور الأميركي من رغبة في تسوية متوازنة، بل من عقيدة استراتيجية متجذّرة تهدف إلى تحويل الإخفاق الإسرائيلي في تحقيق أهداف الحرب إلى مشروع سياسي مكتمل، عبر استخدام أدوات «الهندسة السياسية» لإعادة تركيب التوازنات الداخلية في الدول المعنيّة، بما يخدم المصلحة الإسرائيلية، وبما يعيد ضبط الإقليم وفق معايير تمنع نشوء مقاومة فاعلة قادرة في وجه المتغيّرات العاصفة، بل وتمنع حتى الحدّ الأدنى من السيادة الوطنية.

في هذا السياق، لا تحمل زيارة توم برّاك للبنان أي طابع وساطي، بل تنطوي على إرادة قسرية ناعمة. فالدبلوماسية هنا ليست فعلاً تفاوضياً، بل تشكّل امتداداً لعمل القوة بأدوات غير عسكرية، إذ لا ينظر المبعوث الأميركي إلى الواقع اللبناني ككيان مستقل، بل كحيّز خاضع ينبغي إعادة ترتيبه بعد عجز القوة الإسرائيلية عن فرض شروطها المباشرة.

من هنا، لا يمكن قراءة خطابه الموجّه إلى الدولة اللبنانية خارج محاولات قلب معادلة الصراع: فحيث تتجلّى المقاومة كأداة للدفاع الوطني، يسعى الخطاب الأميركي إلى تأطيرها كأزمة داخلية تعرقل السيادة. وبذلك، تتحوّل مفاهيم مثل «حصرية السلاح بيد الدولة» إلى شعارات تُستخدم لتفريغ الدولة من أي قدرة فعلية على الدفاع، وتحويلها إلى وكيل سياسي لمعادلات تُصاغ خارج حدودها.

في الحروب غير المحسومة يتغيّر الهدف الأميركي من تكريس انتصار العدو إلى تفكيك الإمكانات التي حالت دونه


و«السلام» الذي يروّج له برّاك لا يمتّ بصلة إلى السلام كقيمة فلسفية أو كغاية إنسانية عادلة، بل هو أداة من أدوات الهيمنة المقنّعة، وسلام مشروط بنزع أدوات التوازن، وإعادة تعريف الفاعلين السياسيين باستبعاد من له قدرة على التأثير خارج حدود التبعية.

بهذا المعنى، لا يزور برّاك لبنان، بل يأتي مُحمّلاً بأدوات الضغط و«الإقناع» القسري، مغلّفة بابتسامات مدروسة وعبارات منمّقة تخدم أهدافاً واضحة.

أما الخطاب الذي يتحدّث عن التهدئة ومواكبة «عملية التغيير الأميركي» في المنطقة، فلا يحمل سوى مشروع لتجريد لبنان من أبسط مقوّمات الدفاع، وجعله عرضةً للرياح الإقليمية والمتغيّرات الدولية، في لحظة سياسية تقرّر إسرائيل توقيتها واتجاهها.

من جهة أخرى، يمكن إدراج خطاب المبعوث الأميركي ضمن إطار نظرية «إنتاج المعنى السياسي للصراع». فالهدف لم يعد يقتصر على تطويق المقاومة، بل تعدّاه إلى إعادة تعريف دلالاتها: فبدل أن تكون عنواناً للدفاع عن الوجود والمصير والمستقبل، تُصاغ في الخطاب الدبلوماسي الأميركي كعامل تهديد للنظام والاستقرار، وكأنّ المشكلة ليست في الاحتلال المستمر، بل في من يقاومه.

بهذا المنطق، يُعاد تأطير الدولة نفسها: من كيان سيادي يتولّى حماية المصالح الوطنية، إلى جهاز إداري وظيفته تنفيذ الشروط المفروضة من الخارج. والدولة، في هذه المقاربة، لا تُفهم كفاعل مستقلّ، بل كأداة محلية لتنفيذ خرائط تُرسم مسارها خارج حدودها.

في الحروب غير المحسومة يتغيّر الهدف الأميركي من تكريس انتصار العدو إلى تفكيك الإمكانات التي حالت دونه


ما يفعله برّاك اليوم هو إحياء لمنطقٍ اختبرناه مراراً في كل مرحلة أعقبت حرباً غير محسومة: إذا لم تُفرض النتائج بالسلاح، تُفرض بالدبلوماسية، بالعقوبات، وبالخطاب الأخلاقي المزيّف.

ومن هنا تنبع خطورة المرحلة. فالمطلوب لا يقتصر على تحييد المقاومة عسكرياً، بل يتجاوزه إلى تفكيكها نفسياً ورمزياً داخل بيئتها الوطنية، وتقديمها كعبء بما يحرّض عليها بيئتها، ويُبنى كل ذلك ضمن سردية سياسية وإعلامية متكاملة.

وهذا النمط يُطابق تماماً ما تصفه نظريات «الهندسة السياسية القسرية»، التي ترى في الحرب غير المحسومة فرصةً لإعادة تشكيل الخصم: عبر تفكيك بنيته الأخلاقية، والشعبية، والمعنوية، والسياسية، من خلال استثمار التناقضات والفرص الكامنة في البيئة العامة.

ومع ذلك، يمكن ملاحظة نمطٍ ثابت في السياسة الأميركية، وإن اختلفت أدواته باختلاف نتائج الحرب. ففي حال تحقيق انتصار إسرائيلي حاسم، كما في أعقاب حرب 1967، تُصبح المهمة الأميركية تكريس هذا الانتصار، وتحويل نتائجه إلى وقائع دبلوماسية وقانونية لا رجعة عنها.

أما في حال الحرب غير المحسومة، كما في الحرب الأخيرة، فيتغيّر الهدف: من تكريس الانتصار إلى تفكيك الإمكانات التي حالت دونه.

هنا تبدأ المعركة على البنية التحتية السياسية والثقافية للدولة، وتظهر أدوات السيطرة الناعمة: الضغط المالي، تأليب الداخل، صياغة السردية الدولية، وربط الشرعية بمقدار الطاعة. ويبقى التلويح بالخيار العسكري حاضراً في خلفية المشهد، لا يغيب، ما دام الطرف المقابل كياناً استيطانياً عدوانياً لا يرى في السلم سوى استراحة محارب.

لكنّ الثابت في الحالتين أن الدولة العربية، لبنان في هذا السياق، لا تُعامَل ككيان ذي سيادة كاملة، بل كطرف يجب ضبطه وتوجيهه. فإمّا أن تُفرض عليه الشروط مباشرة، أو يُقاد قسراً نحو «تسوية» تعوّض ما فشلت الحرب في تحقيقه. والفرق بين الحالتين ليس في المبادئ، بل في الأدوات: حين تنجح الحرب، تأتي الدبلوماسية لتُكرّس النصر. وحين تفشل، تُستأنف المعركة بوسائل غير عسكرية لبلوغ الهدف نفسه. وفي الحالتين، يظل العدو متربصاً، يرقُب اللحظة المناسبة للانقضاض.

أخطر ما في هذا النموذج، ليس سعيه لإضعاف المقاومة فحسب، بل محاولته تفريغ السيادة من مضمونها، وتحويل مفاهيم كالسيادة والإصلاح والدولة نفسها إلى أدوات طيّعة في خدمة الهيمنة. ففي المنطق الأميركي، السيادة ليست حقاً طبيعياً، بل امتياز مشروط: إمّا أن تنخرط الدولة في السردية الأميركية، أو تُصنّف كدولة فاشلة أو خارجة عن «الشرعية الدولية».

وهكذا، لا يبقى أمام اللبنانيين سوى خيارين: إمّا الانخراط في النموذج الأميركي - الإسرائيلي وتوقيع «هزيمة بلا حرب»، أو استعادة المعنى الحقيقي للسيادة والمقاومة كخيار سياسي وطني جامع، يتجاوز الانقسامات الداخلية، ويؤسّس لدولة سيادية لا وظيفية، أي لا كأداة تنفيذ لإرادة الخارج، بل كإطار لبلورة إرادة مستقلّة، تسعى إلى تحصين لبنان وتعزيز عناصر قوته كضمانة لأمنه ومستقبله، في بيئة إقليمية تتقلّب على وقع سيل من المتغيّرات.