الاحداث - كتب جورج شاهين في صحيفة الجمهورية يقول:"تعدّدت التحليلات التي سبقت لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب ورافقته وتلته. وإذ توقف المراقبون أمام الشكل الذي اتخذه اللقاء، وما تضمنته بعض المواقف المشتتة من الطرفين، في غياب مؤتمر صحافي مشترك، لم يلتفت أحد بعد إلى النتائج المترتبة عليه، لجهة ما يمكن أن تجنيه واشنطن من استراتيجيتها الجديدة في سوريا والمنطقة. وإن صح التكهن بقاعدة عسكرية جنوب دمشق، تكون واشنطن قد تسلّمت ثلاث زوايا كاملة من الجغرافيا السورية، وتركت الرابعة لموسكو. وعليه كيف يمكن تفسير ذلك؟
لا يكفي أن يتوقف المراقبون والمغرّدون أمام اعتبار زيارة الشرع لواشنطن على انّها الأولى لرئيس سكن القصر الجمهوري في دمشق، أو أنّه أُدخل من الباب الخلفي للبيت الأبيض، وغياب المؤتمر الصحافي المشترك بينه وبين ترامب، وعدم صدور أي بيان رسمي عنها، والاكتفاء بالتغريدات والتعليقات التي أطلقها ترامب، مشيداً بالرجل الذي يحكم سوريا الجديدة وقدرته على إدارة دفتها ورغبته التوجّه إلى السلام في المنطقة. ولا بتغريدات وزير الخارجية السورية اسعد الشيباني، الذي تحدث عمّا يمكن أن تجنيه سوريا من الزيارة والانفتاح الدولي على دمشق واستعداداتها للانفتاح على هذا المجتمع الكبير، بعد سنوات من الغياب القسري، وبداية التخلّص من مجموعة العقوبات المفروضة عليها، والتي بدأت تتفكّك واحدة بعد أخرى في قطاع تلو الآخر، في مرحلة توازي حجم ترقّب القدرة على استعادة دور الدولة كاملة على أراضيها في ظل مشاريع تفتيتها وتقسيمها، والتي تسعى الولايات المتحدة إلى مواجهتها، حتى إن كانت من خطط دول الجوار من الحلفاء والأصدقاء في المنطقة.
وعليه، فإنّ بعض الديبلوماسيين المخضرمين يصرّون على مقاربة لهذه الزيارة من زوايا مختلفة، تتعلق بالتحولات الكبيرة في سوريا والمنطقة على أبواب شرق أوسط جديد يجري رسمه بدقة وعناية، بطريقة تحفظ أدوار القوى النافذة فيه ومصالحها، سواء تلك التي عززت وجودها حتى تضخّم، أو تلك للحفاظ على ما تحقق فيها، وسعي أخرى إلى العودة إليها. فالمتغيّرات المتوقعة في دول المنطقة طاولت الجميع، ولا تقف عند حدود الساحة السورية بجغرافيتها المفكّكة اليوم، وما يمكن أن تؤدي اليه عملية بناء الدولة الفتية التي على بناتها الانطلاق من الصفر على كل المستويات.
فلا ينسى أحد – يضيف الديبلوماسيون أنفسهم - أنّ سوريا اليوم تعيش في ظل إدارة هشة، وقد افتقد موظفوها رواتبهم قبل النجدة القطرية والسعودية. وإن كانت بلا جيش نظامي موحّد وقادر على ضبط ساحتها الداخلية على الأقل، فهو يعاني من فقدان ما يرثه من قدرات جيش النظام السابق الذي تمّ تدميره في القتال الداخلي قبل أن تقضي اسرائيل على ما تبقّى له من أسلحة وقواعد ومطارات بطريقة مبرمجة. وإن كانت تعيش ثورتها على النظام القضائي الشرعي والديني قبل الاستيلاء على السلطة وطرد رأس النظام، فهي في طور العودة إلى بناء القضاء وربطه بالقوانين والمواثيق والأعراف الدولية التي تحاكي علاقاتها الخارجية بدءاً من جاراتها، وصولاً إلى العالم وطريقة إدارة شؤون الناس المدنية قبل الدينية والشرعية. وكل ذلك يتمّ على وقع الاستعداد لإصدار عملة جديدة للتخلص من رموز النظام السابق على أوراقها، في وقت بدأت ببناء جهازها الاقتصادي والديبلوماسي الجديد، لمجرد حاجتها للتعاطي مع المراجع الدولية والأممية، ومواكبة عودة سفرائها إلى دول عدة باعدت بينها الأحداث الأخيرة وما تسببت به القطيعة مع دول عربية وغربية عدة، إثر الصاق تهم الإرهاب بنظامها السابق والعقوبات التي طاولت رؤوساً عسكرية وقضائية وديبلوماسية وحزبية ومالية وسياسية، ما زالت قيد الملاحقة الجزائية الدولية والمحلية إلى اليوم.
على هذه الخلفيات، تتطلع المصادر الديبلوماسية عينها إلى استشراف دور سوريا المقبلة، بعد شكل نظامها وحجمه وقدرتها على اكتساب "الثوب الجديد" الذي يريده لها المجتمع الدولي، ولا سيما منه الولايات المتحدة الأميركية التي ترعى خطوات الإدارة الجديدة، منذ أن لعب ولي العهد السعودي دور الراعي الأول للقاء الذي جمع الشرع بترامب في الرياض، وصولاً إلى استقباله في البيت الأبيض. وهو ما جعل التفكير ملياً في ما يمكن ان توفّره هذه السياسة للمصالح الأميركية، من باب الأفضلية التي تريدها بلا أي منازع، قبل احتساب المصالح السورية الداخلية وتلك العائدة لدول المنطقة، التي تحاول أن تلعب دوراً كبيراً على ساحتها الداخلية من زوايا مختلفة. وهو أمر يُترجم بالسعي الإسرائيلي للهيمنة على أجزاء من خاصرتها الجنوبية – الغربية، او تركيا من الجهة الشمالية - الغربية والشرقية، عدا عن سعي روسيا للعودة إلى ما كان لها من نفوذ فيها انطلاقاً من منطقة الساحل السوري الذي يشكّل واجهتها البحرية، والتي لم تنازعها فيها أي دولة أخرى منذ 75 عاماً قبل دخول إيران إليها وإلى حين مغادرة آخر ديبلوماسييها وخبرائها ومستشاريها وميليشياتها المسلحة منها.
وانطلاقاً من هذه المؤشرات، تصل القراءة المتأنية للدور الأميركي في سوريا إلى مزيد من الاقتناع بوجود قرار أميركي اتُخذ على أعلى المستويات للإمساك بالساحة السورية بطريقة متفرّدة، ومن جوانبها المختلفة، وقد كلّفت من يرعى شؤونها كاملة من البوابة التركية الأقرب اليها، منذ أن كُلّف سفيرها في انقرة توم برّاك أن يكون ممثلاً لترامب لرعاية خطوات العهد الجديد خطوة خطوة، بما فيها المصالحات المطلوبة بين المجموعة الجديدة التي استولت على السلطة وأكراد الدولة ودروزها وغيرهم من العشائر التي لم تنضو تحت لواء الثورة التي دخلت دمشق، وصولاً إلى المشاريع الكبرى لضخ الاستثمارات الأميركية والخليجية فيها، في أجواء توحي بوجود عملية منظّمة لا تتجاهل مصالح أي طرف، بمقدار ما ظهر من مساعٍ لتشكيل فريق دولي ينال كل طرف منه حصته في الدولة الحديثة.
ولتكتمل الصورة الجديدة لمستقبل الدور الأميركي في سوريا بزواياها الأربع، تنتظر الأوساط المراقبة الإعلان عن القاعدة الأميركية الجديدة جنوب دمشق، لتمسك بالزاوية الجنوبية - الغربية من الدولة عند مربع الحدود السورية ـ الأردنية ـ اللبنانية مع فلسطين المحتلة، وقد مهّدت لها طائرات من الحلف الدولي هبطت في الفترة الأخيرة في مطار دمشق وقاعدة في جنوب البلاد، ولتضاف إلى "قاعدة التنف" التي تمسك بالزاوية الجنوبية ـ الشرقية منها عند مربع الحدود السورية ـ العراقية ـ الأردنية ـ السعودية، وتكتمل الصورة بالقاعدة الشمالية - الشرقية التي تمسك بالحدود السورية ـ التركية والعراقية، ولتبقى الزاوية الغربية الرابعة الساحلية من حصة موسكو .