الاحداث- كتبت لينا فخر الدين في صحيفة "الأخبار" تقول:"يختلف الموحّدون الدروز في كينونتهم عن باقي الطوائف. لطالما كان الهاجس الوجودي مسيطراً على العقل الجمعي لهم. ارتباطاً بالتغيرات الكبيرة التي تحصل من حولهم، والتي تجعل مسألتَي بقائهم على قيد الحياة السياسيّة ومحوريّة دورهم الذي تعدّى حجمهم (ومنها تأسيس الكيان اللبناني وأيضاً استقلال سوريا بقيادة سلطان باشا الأطرش) تثيران الاهتمام رغم كونهم أقليّة تتمدّد في 4 بلدان متلاصقة: لبنان وسوريا والأردن وفلسطين المحتلّة.
هذا الدور تبدّى في تصرف الدروز على أنّ قائدهم كمال جنبلاط تولّى عن حق، قيادة الحركة الوطنية ومعها زعامة الدروز في كل العالم العربي. وهو أمر تكرّر مع وليد جنبلاط، الذي عاد ليتولّى قيادة حركة «14 آذار»، دون أن يغفل الدروز، دور الشريك الآخر في المرجعية، أي الأمير مجيد أرسلان في ما عرف بالانتفاضة على الانتداب الفرنسي.
لكن السّمة العامة للحركة الدرزية، خصوصاً الجنبلاطية منها، استندت إلى موقف جذري في الانتماء إلى العروبة. بمعزل عن النقاش حول طبيعة النظام العربي القائم. وهو أمر انضمّ إليه الأرسلانيون، في علاقتهم مع النظام السوري بعد توقّف الحرب الأهلية في لبنان. والعلاقة بالعروبة، كانت سبيلاً إلى علاقة تفاعل مع المحيط السنّي بكل صنوف أهوائه، من عبد الناصر إلى آل سعود وآل الاسد وملك الأردن وحاكم العراق.
على مدى ألف سنة من وجودهم في هذه البلدان، تمسّك «بني معروف» بمبادئ الطائفة المغلقة التي لا تسعى إلى تبشير أو تمدّد، وتتّبع «الاستتار بالمألوف» (معتقد قريب من التقيّة). وأدّت هذه «السلميّة الدينيّة» دوراً في حالة سلامٍ عاشها الدروز على مرّ العصور في «المحيط السنّي» (بمعزل عن مشاركتهم في الحرب الأهلية اللبنانية). وهي مسار توافق عليه مَن تعاقب على القيادتَين السياسية والدينية.
الشرعيّة الدينيّة مدخلٌ إلى السياسة
في مجتمع الموحدين الدروز لا يمكن سلخ دور المشايخ الأعيان عن السياسة، إذ أنّ وظيفة هؤلاء لم تقتصر يوماً على الجانب الروحي والاجتماعي، بل تعدّتها إلى السياسة ورسم خطوطها العريضة. وهو ما يفسّر صراعات القيادات السياسية الدرزية على مشيخة العقل و«اللفة المكولسة».
ومسار أحداث التاريخ الحديث، تُظهر أنّه يوم حصل الأمير مجيد أرسلان وبعده كمال جنبلاط على غطاء الشرعيّة الدينيّة للموحّدين الدروز، فإنّ عناوين إستراتيجيّتهم السياسية لم تحدْ عن هدف حماية الدّروز. خصوصاً مع كمال جنبلاط، بوصفه العلماني الحالم بتقدّميّة تخرج إقطاعيّته من زمن الرجعيّة، ولكنه كان في نهاية المطاف: ابن العشيرة والملّة.
هذه العباءة سُرعان ما تدثّر بها وليد جنبلاط، ومنحته تعويماً سياسياً، وصارت حصنه الذي يردّ عنه سهام الخصوم. وهو أمر مستمرّ حتى الآن، وآخر الأمثلة على ذلك، ما حصل عندما حاول وئام وهاب «الدق» بأسوار الزعامة الجنبلاطية في زمن التوريث، فقام المشايخ بمهمّة التصدّي لوهاب، ومنحوا الشرعية إلى تيمور جنبلاط. لكنّ العبارة التي حفظها جنبلاط الحفيد من الأب والجدّ كانت :«سنحافظ على الجبل مهما اشتدّت الضغوطات والتحديات».
هكذا يُمكن فهم العلاقة الحديديّة بين السلطتين الدرزيتين، الدينية والسياسية، إلّا أنّ علاقة «أبو تيمور» تكاد تكون مختلفة. ربّما ساعده في ذلك خفوت «الإرسلانية»، وقبلها التنوخيّون، عندما حصل نوع من تقاسم النفوذ. يُضاف إليها محاولات التخوين التي سيقت ضدّ طلال أرسلان بين أصحاب «اللفات البيضاء» بعد 7 أيّار، ومن ثمّ تحالفه مع النّظام السوري.
قيادة الشارع… والخلوات
تراجع الدّور الذي أدّته خلدة وتعاظم دور المختارة، في الحرب والسلم في زمن السوريين وبعد خروجهم، ما ساعد جنبلاط على الإطباق على مشيخة العقل، حتّى تحوّل أسلوبه إلى نموذج، أغرى مرجعيات إسلامية أخرى، من بينها الرئيسان نبيه بري ورفيق الحريري، في مساعيهما لبسط سلطتهما على دار الفتوى والمجلس الشيعي. ما جعل المرجعية المسيحية الوحيدة، خارج الأسر السياسي.
لكنّ جنبلاط، الذي لم يعرف عنه، رغبة في بناء علاقة خاصة مع المشايخ، ولا التزاماً بالطقوس، ولا حتى بالأعراف، كان يجد نفسه مضطرّاً إلى الاستثمار في «مؤسسة العرفان التوحيديّة» ومدّها بالتبرعات والتمويل خلال سنوات طويلة، حتى نجح في تحويل «دار الطائفة» والمشايخ والخلوات إلى «الجيش أسود»، على غرار الأكليروس المسيحي.
غالباً ما قيل، عن جنبلاط أنّ «ذنبه مغفور» لدى المشايخ، من دون الخوْض في تفاصيل خروج «الرّجل العلماني» عن مسلّمات «أهل التوحيد» الاجتماعيّة والدينيّة.
تجاهل هؤلاء ما يسمّيه البعض «تجاوزات»، لما وجدوا في جنبلاط الزعيم الأقوى الذي قاد «المعروفيين» من انتصارٍ إلى آخر، وكرّس وجودهم في مرحلة ما بعد الطائف. هذه القوّة مبنيّة على طريقة حضوره السياسي العام، في لبنان وخارجه، وعلى طريقته في تحصيل ما يعبتره حقوق الطائفة داخل مؤسسات الدولة. ولم يكن المشايخ يُريدون أكثر من ذلك، فصاروا يميلون مع «البيك» كيفما مال، ومَن لا يفعل ينجح «أبو تيمور» في تذويبه في بحرٍ من المؤيّدين أو استبعاده.
وبالأدوات نفسها، استمال الرّجل الشارع الدرزي، واخترق جزءاً من الشارع السنّي في إقليم الخروب، وفرض حضوراً عند شيعة الشوف وعالية، كما حافظ على حضور معتبر عند المسيحيين من أبناء هذه المنطقة. متّكئاً على «ميكافيليّة سياسية» تمنحه القدرة على الانتقال من ضفّة إلى أُخرى، من دون استصعاب فكرة انتقال شارعه معه. والمفارقة أنه لم يفقد يوماً «جنبلاطياً واحداً»، لكوْنه في عيونهم، دائماً على حق!
القبضة تتبدّد
اليوم، ثمّة مزاج مختلف. والزعامة الجنبلاطية ليست بصحة تامة. كما أنّ القبضة الحديديّة التي يفرضها جنبلاط، عرضة للتفكّك بين جمهوره، والسبب الأهم: أحداث سوريا.
وها قد نبتت مرجعيّات دينيّة على «العشب الإسرائيلي» وصارت تُنافس «المختارة» في علاقاتها الدوّلية.. إذ ليس سهلاً على «البيك» أن يُشاهد الشيخ موفق طريف ينتقل من عاصمة عربية إلى أُخرى غربيّة، كما ليس سهلاً عليه أيضاً أن يرى أنّ «الحساب الدرزي» الذي كان يدرّ الأموال الخارجيّة، فجأة صار باسم طريف بدلاً من اسمه. فعلياً، خرجت الأمور عن سيطرة «الجنبلاطيين» في السويداء، التي كانت تمتلك فيها على مدار السنوات علاقات متشعّبة.
ومع ذلك، لا يتصرّف جنبلاط دوماً وفقاً للحسابات الشخصيّة، بل يتطلّع إليها بعيون أوسع تمتدّ من الماضي إلى المستقبل. لذا، فإنّ الأزمة الفعليّة مع طريف، ومع الشيخ حكمت الهاجري، هي في رفضه المطلق جرّ الطائفة الدّرزية إلى محورٍ مناهض للعروبة، وإلى رسم أحلامٍ انفصاليّة لا تتلاءم مع تاريخ النضال في وجه الانتداب والاحتلال. وهو الذي لطالما حذّر من «الحرب التي لا تنتهي مع المسلمين»، قاصداً السنّة، قبل أن يراها بأم عينيه بالاعتداءات على السويداء.
ومع ذلك، فإنّ «التمرّد: بات على شكل كرة ثلح صغيرة، لكنها تكبر بسرعة. وبات اللبنانيون يرون مشاهداً لم يألفوها مع زعامة المختارة، مثل أن يشهر مشايخ معارضتهم لمواقفه، لكن ما يثير «نقزة» جنبلاط وأنصاره، هو مشهد المئات يتظاهرون في السويداء مندّدين بـ«جنبلاط خائن»، وقبلها وقف شيخ ينتمي إلى آل محمود المعروفين بـ«جنبلاطيتهم» في وجه جنبلاط معاتباً إياه على علاقته بأحمد الشرع.
فيما تعقد خلوات و يجاهر مشايخها بأنّ جنبلاط يقف على الجبهة الخطأ، والنتيجة المختلفة هي أنّ الشارع لم يمِلْ هذه المرّة كما تميل «المختارة».. بينما يهاجم كثيرون، شيخ العقل سامي أبي المنى تأييده بدلبا من مهاجمة جنبلاط.
والعارفون في الأوساط الدرزية يشيرون إلى أنّ ما يحصل في الغرف المغلقة أكثر تعقيداً من الظّاهر، ويشي بأنّ الشارع كما خلوات المشايخ، وأروقة الحزب الاشتراكي، لم يعد مسيطراً عليها بالكامل من قبل جنبلاط. وتضجّ الغرف المغلقة بانتقادات تصدر على لسان مسؤولين في الحزب، لكن أكثر ما يقلق جنبلاط، هو مجاهرة مشايخ متشدّدين بأنّ مرجعيّتهم باتت في الجليل وليس في المختارة!
اتّهامات و«دفاتر مفتوحة»
وإذا كان تياراً شبابياً، خرج من رحم الحالة الجنبلاطية، وانضوى في صفوف المنتفضين في تشرين العام 2019، وانعكس ذلك في الانتخابات النيابية، في الشوف وعالية وحاصبيا، فإنّ مشهد اليوم يختلف. لأنّ من يعترض على مواقف جنبلاط، لا تحرّكه المسألة الداخلية، أو التعدّدية السياسية، بل ما يخصّ «السؤال الوجودي».
كما يروّجون. ويقول هؤلاء إنّ جنبلاط لم يعُد صاحب «الذنب المغفور»، وتجرّأ قليلون على طلب إخراجه من الملّة، بذريعة تقويضه أركان الدين وطقوسه.
بينما يذهب البعض إلى حدّ اتّهامه باقترابه من «جبهة النصرة» سابقاً ومشاركته في غرفة «الموك» في الأردن، كما مطالبته في لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالضغط على إسرائيل لتخفيف دعمها للدروز حتّى تتمكّن حكومة أحمد الشرع من إحكام قبضتها على السويداء. وبمعزل عن دقة هذه الاتهامات، إلا أنّ مَن يريد رفع الصوت اعتراضاً على جنبلاط، بات يستخدمها في التحريض اليومي. وهو أمر يتزامن مع رضى هذه الطبقة على طلال أرسلان.
ويقول المشايخ إنّ خلدة لم تذهب، كما المختارة، إلى تأييد مطلق للشرع وإعطائه الغطاء الدرزي، بل سبق لـ«المير» أن وصف حكومة الشرع بحكومة الإرهاب، وهو ما يجعلهم يطلقون حملة لتبرئته من الانخراط في «المؤامرة على الدروز». ومع ذلك، يأخذ البعض عليه، إمساكه بيد «البيك» لإخراجه من المأزق.
يُجلد جنبلاط على موقفه الرافض لاقتراب الدروز من الإسرائيليين، بينما يعتبر العديد من الدّروز أنّه كان جزءاً من رميهم في حضن «الوحش الصهيوني» حينما زار الرئيس السوري أحمد الشرع مرتين، وعندما لم يُعلن النفير العام تحت مسمّى «يا غيرة الدين» إثر الدّخول المسلّح إلى السويداء.
وأنه مسؤول عن دماء الدروز، عندما لم يحرّك ساكناً عندما قرّرت السعوديّة منح الشرعيّة للشرع في سفك الدّماء في جبل العرب. وأكثر من ذلك، يُردّد هؤلاء أنّ جنبلاط طلب الدّخول عنوةً إلى السويداء، مراهناً على فصائل درزية داعمة لهذا الخيار. وأنّ جنبلاط كثير التأثير على «حركة رجال الكرامة» بقيادة الشيخ وحيد بلعوس.
«الكماشة» الجنبلاطيّة
لكنّ الصورة ليست كلّها على هذا النحو، ففي المقابل، ترى شخصيات درزيّة نافذة، أنّه رغم خطورة الوضع وانزياح البعض عن البوصلة الجنبلاطيّة وصولاً إلى تأييد طريف، إلّا أنّ الوضع لن يبقى على حاله ولن يُقرّش لا في السياسة ولا في الانتخابات النيابيّة، بل ستبقى الجنبلاطيّة هي الحاكمة بأمرها بعد زوال موجة الغضب و«فشة الخلق». ولكن أكثر المآزق خطورة، بالنسبة إليهم، هو هواجس الريبة التي تجتاح جنبلاط بأنّ هذا التحوّل بالخطاب الدرزي، يحصل في عزّ معركته تثبيت زعامة نجله ووريثه تيمور.
ويعتبر هؤلاء أنّ جنبلاط سينجح، كعادته، في التقاط «الكماشة» من الجديد للم شارعه، خصوصاً أنّ لجنبلاط روايته المنطقية في حماية الوجود الدرزي في «البحر السنّي»، كما في إبعاده عن السياسات الصهيونية الانعزاليّة، لتتبدّى بعد مدّة أنّ «أنتينات» الرّجل وعمليات استشرافه السياسية الدائمة، كانت على حق كالعادة.
وهو ما يفعله اليوم، حينما تنادى مع أرسلان وجالا على عددٍ من الخلوات. وأعلنا دعم خيار فصل المسارات، لجهة منع انعكاس حدث السويداء على لبنان.
كما الحؤول دون توريط «متهوّرين» في لبنان بالحملة الدموية، وهو السبب الرئيسي لقرار جنبلاط تسليم الجيش كمّية لا بأس بها من السلاح الثقيل والمتوسّط والفردي إلى الجيش اللبناني. وسط خشية حقيقية لدى جنبلاط من قيام توتر كبير على مستوى العلاقات الدرزية – السنيّة… وهو أخطر الامتحانات أمام الزعامة الدرزية بشقّيها الداعم أو الرافض لما يحصل في سوريا!