الاحداث – كتب جورج شاهين في صحيفة الجمهورية يقول:"سقطت كل التوقعات والسيناريوهات التي أعطت اجتماع الخماسية العسكرية أمس الأهمية التي اكتسبها، منذ أن حصرت الموفدة الأميركية مورغان اورتاغوس زياراتها للبنان باجتماعاتها، وإن بقيت المناقشات وفق جدول أعمالها المكثف بعيدة من الأضواء، فقد طُرح السؤال عن الأسباب التي أدّت إلى إلغاء زيارة اورتاغوس، والظروف التي بدأت تتحكّم بعملها. فهل هي انعكاس للإغلاق الحكومي في الإدارة الأميركية المركزية؟ أم انّ وراء الأكمة ما وراءها؟
بصمتٍ بالغٍ وبلا أي مقدّمات، انعقدت اللجنة الخماسية أمس في الناقورة، في حضور جميع أعضائها برئاسة الأدميرال الأميركي الجديد، بعد الاجتماع الأخير الذي عُقد في السابع من ايلول الماضي بمشاركة السيدة اورتاغوس، وفق آلية جديدة رسمتها القيادة الوسطى الأميركية لها. وهو أمر أوحى بوجود آلية عمل جديدة استعداداً للبرنامج البعيد المدى الذي يحاكي مهمّاتها في لبنان، قياساً على المتغيّرات المتوقعة، والتي ستدوم طويلاً وفق المعطيات الجديدة التي عبّرت عنها بالصيغة الجديدة التي اكتسبتها، منذ أن عُيّن الادميرال براد كوبر قائداً جديداً للمنطقة الوسطى الأميركية، وعلى ضوء قرار إنهاء مهمّة "اليونيفيل" في لبنان قريباً.
وقبل الدخول في الظروف التي تنتظرها المنطقة بعد التحولات الأخيرة التي قلبت الوضع رأساً على عقب في المنطقة، ولا سيما منها تلك التي أعقبت نجاح المبادرة الأميركية التي أطلقها الرئيس ترامب لإنهاء الحرب في قطاع غزة، تمهيداً لتعميم تجربة وقف النار في قطاع غزة على ساحات المنطقة الملتهبة، وتوطئة لوقف الحروب التي بلغت الذروة بالضربة الأميركية - الإسرائيلية التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية والقيادات العسكرية والمنشآت الكهربائية، قبل "الدعسة الناقصة" التي ارتكبتها إسرائيل بقصف الدوحة، ودفعت إلى التحول الكبير في موقف الإدارة الأميركية مما يجري في المنطقة، الذي شكّل انعكاساً للغضب الذي عبّرت عنه مجموعة الدول العربية والإسلامية الثماني، التي تحرّكت في اتجاه واشنطن بعد الأمم المتحدة، والإصرار على الاعتراف بالدولة الفلسطينية وفق المبادرة السعودية ـ الفرنسية.
ورأت مراجع ديبلوماسية وسياسية في الحراك الذي قاده ترامب ما بين القدس وشرم الشيخ، ووقف النار وتوقيع مبادرة "شرم الشيخ للسلام" وما رافقها من احتفالات بانتهاء الحرب في قطاع غزة والتحضير للمراحل اللاحقة، أنّ النهاية التي بلغتها لم تكن مفاجئة. فقد تلاحقت المبادرات وتعقّدت الطروحات في أكثر من محطة، لكنها لم تخفت. وما أرادته القوى الكبرى بقيادة الولايات المتحدة من نهاية لما يجري، قد تمّ وفق ما أُريد له، ليس على مستوى قطاع غزة فحسب إنما على مستوى المنطقة بكاملها. وإنّ البحث ببعض الخطوات المقبلة بات على قاب قوسين او أدنى من أن يتحقق. فكل القوى أجمعت على إقفال الملفات كاملة، وفق مبدأ الخطوة خطوة ومن ساحة إلى ساحة، وفق سلّم أولويات فرضته التطورات وقدرات الأطراف على تحمّل ما يجري وتجاوز المحن التي عاشتها كل دولة على حدة، وآلية تطبيقها التي لم تكتمل فصولها بعد.
ليس في ما سبق ابتعاداً عمّا يجري على الساحة اللبنانية، ولكن هذا العرض الذي قدّمته هذه المراجع أرادت منه مدخلاً إلى الوضع في لبنان ثاني الساحات التي تستقطب المبادرات المقبلة، فانعكست الترددات الفورية عليها وفق بعض المؤشرات ومنها:
- تراجع حدّة العمليات العسكرية الإسرائيلية في لبنان من ضمن سيناريو جديد ستظهر معالمه قريباً، وفق حركة الموفدين المرتقبة في اتجاه لبنان، وهم من جنسيات عدة سعودية وقطرية وفرنسية وأميركية على الأقل، ومعهم ستظهر بشائر الحلول المقترحة، ومفتاحها بخطوة إسرائيلية تلاقي الخطوات اللبنانية المتقدمة، التي بدأت تستدرج الثقة الدولية والارتياح المطلوب لتزخيم المراحل المقبلة.
- الحراك الديبلوماسي المنتظر ليس لتضييع البوصلة وزيادة عدد "الطباخين"، إنما لإثبات أنّ ما جرى كان قراراً جماعياً ترجمته مبادرة ترامب التي وزعت المغانم والمكاسب والهزائم على الجميع. وكذلك للتأكيد أنّ ما جرى ليس نصراً أميركياً وإسرائيلياً يحتاجه الطرفان من أجل ترميم صورتي قائديهما في الداخل، وإن لم تكتمل عشية التآم الهيئة الخاصة بجائزة "نوبل للسلام"، وإنما من أجل التحضير لأولى الخطوات التي ترسم صورة الشرق الاوسط الجديد، من دون المسّ بخرائطه الجغرافية.
- إنّ الوضع في لبنان ليس معزولاً عن محيطه، وإنّ ما رسم للمنطقة له انعكاساته المباشرة عليه كما على غزة واسرائيل ودول المنطقة. فإلى أجواء التهدئة المتوقع أن تشهدها، ستنعم كل من مصر والاردن بالاستقرار، بعد تراجع شبح الترانسفير الفلسطيني، وربما دول اخرى كانت مطروحة لاستقبال قوافل اللاجئين الفلسطينيين المرحّلين عن ارضهم. وإن كانت السودان واحدة منها على تلك اللائحة التي جُمّد العمل بها، لمجرد قبول ترامب بالعرض العربي للهيئة الدولية والعربية لإعادة الإعمار وتشكيل المجموعة التي ستديرها عبر "مجلس السلام" للسنوات الخمس المقبلة.
كل هذه المؤشرات إلى اخرى تتفرّع منها او تنضوي تحت عناوينها، جاء الإغلاق الحكومي الأميركي مناسبة لتبرير تجميد مهمّة اورتاغوس، فغابت عن المنطقة أمس، وقد كان في إمكانها التحرك مما هو متوافر من تمويل من موازنة وزارة الخارجية كما قال مصدر مطلع. وكل ذلك يجري وهو مستمر على حاله من الجمود، في انتظار بلورة المراحل الأولى من خطة ترامب لقطاع غزة في مهلة أقصاها نهاية الشهر الجاري، قبل ان تنطلق ورشة العمل على الساحات الاخرى بدءاً من الساحة اللبنانية، ذلك انّ الساحة السورية بدأت تشهد حراكاً مرسوماً لها من قبل، وفق برنامج عمل يتقن الفريق السوري الجديد الالتزام به، كما رُسمت بأدق التفاصيل، وصولاً إلى مرحلة من الاستقرار وإعادة الإعمار ضمن ورشة كبيرة للمنطقة.
وإلى تلك المرحلة، ليس على اللبنانيين سوى الصبر قليلاً. فالجميع يدرك حقيقة ما حصل وما نتج من المغامرات الكبرى التي اقتيد اليها البلد، وسيكون ذلك مبرمجاً في وقت قريب، ليلعب كل دوره وما يتاح له، بعد أن تستوعب الساحة الداخلية المتغيّرات الكبرى في المنطقة. وقد أكّدت التجارب قدرة اللبنانيين على التكيّف، فيما هو مأمول قريباً وعلى مراحل لن تكون بعيدة من مظلة الأمن والاستقرار وإعادة الإعمار فيها. فمهما تعددت العراقيل فكلها إلى زوال متدرّج أمام الجرافة الدولية الكبرى التي تعهّدت بتكوين الشرق الاوسط الجديد، ولن يكون أمامها أي عائق كبير.