الاحداث- كتب شارل جبور في صحيفة نداء الوطن يقول:"ليس خافيًا على أحد أن الملف الرئيسي في لبنان، والذي يحظى بالاهتمام الخارجي، هو المتعلِّق بسلاح "حزب الله"، وهو ملف مجمّد التنفيذ، لأن الدولة لا تبدو عازمة على احتكار السلاح بالقوة، رغم أن ذلك من أبسط واجباتها ووظائفها، إذ لا دولة تُبنى من دون أن تحتكر وحدها استخدام القوة.
وليس خافيًا على أحد أن هناك تفاهمًا ضمنيًا بين الدولة و"حزب الله"، يقوم مبدئيًا على بندين أساسيين:
البند الأول، الدولة اللبنانية لن تنزع سلاح "حزب الله" بالقوة، لكن على "الحزب" أن يتعاون مع الدولة بتسليمها ما يراه مناسبًا من مخازن وأنفاق وسلاح في جنوب الليطاني في هذه المرحلة، وذلك تجنبًا للضغط الدولي على الدولة.
البند الثاني، امتناع الدولة اللبنانية عن نزع سلاح "حزب الله" بالقوة لا يعني التهاون أو التساهل مع أي تحريك للسلاح أو استخدامه ضدّ إسرائيل أو في الداخل. فغض نظر الدولة عن نزع السلاح مشروط بتحويله عديم الفعالية والتأثير.
وبمعزل عن أن تعطيل فعالية السلاح غير الشرعي لا يتحقّق بقرار، بل بخطوات تبدأ بنزعه، مرورًا بحلّ التنظيم الذي يستخدمه، ووصولًا إلى حظر عمله إذا أصرّ على الترويج لدوره المسلّح خلافًا للدستور، لكن بمعزل عن ذلك الآن، فإن هناك اعتقادًا بأن الخلفية الأساسية وراء ملاقاة الرئيس جوزاف عون للرئيس دونالد ترامب بالمبادرة إلى مفاوضات لحل المشاكل العالقة بين لبنان وإسرائيل، مردها إلى سبب رئيسي وهو محاولة تحقيق خرق في جدار الجمود الذي دخله ملف السلاح، من خلال القفز فوق هذا الملف، الذي لا تريد الدولة نزعه، ولا يريد "الحزب" تسليمه. ويتم هذا الخرق عبر محاولة إرضاء مزدوجة:
إرضاء واشنطن بأن لبنان لن يكون خارج الترتيب الذي تعمل عليه في المنطقة، وأنه سينضم إلى قطارها ويكون جزءًا من رؤيتها للشرق الأوسط، خصوصًا أن قمة شرم الشيخ جمعت مليار سني.
إرضاء "حزب الله" بأن سقف التفاوض هو العودة إلى اتفاقية الهدنة من جهة، وربط هذا التفاوض، من جهة ثانية، بخروج إسرائيل من النقاط التي تتواجد فيها، ووقف هجماتها، وإطلاق الأسرى، والشروع في إعادة الإعمار.
لكن هذه المبادرة ولدت ميتة مبدئيًا لثلاثة أسباب أساسية:
أولًا، لأن إسرائيل لن تنفِّذ ما هو مطلوب منها قبل ان ينفِّذ "حزب الله" ما وقع عليه في 27 تشرين الثاني 2024، لجهة تسليم سلاحه وتفكيك بنيته العسكرية. ولن تمنحه فرصة إعادة بناء قوته، بل ستبقيه تحت ضغط ضرباتها المستمرة، خاصة بعد أن تمكنت من شلّ حركته العسكرية بالكامل.
ثانيًا، لأن الولايات المتحدة تعتبر أن المدخل إلى التفاوض هو نزع سلاح "حزب الله"، الذي يشكل البند الأول بالنسبة إليها، وما قيمة التفاوض إذا كانت الدولة لم تحتكر السلاح بعد، وإذا كانت نتائج هذا التفاوض غير قابلة للترجمة في ظل السلاح الذي يحول دون هذه الترجمة؟
ثالثًا، لأن التفاوض المطلوب أميركيًا هو التفاوض الذي يقود إلى السلام، لا إلى إعادة العمل باتفاقية الهدنة التي طبقتها إسرائيل بالقوة، ولن توقف استخدام القوة قبل أن تتأكّد من قدرة الدولة اللبنانية على حماية حدودها. فواشنطن لا تعتبر الهدنة إنجازًا، بل ترى في ضمّ لبنان إلى السلام الإبراهيمي هو الإنجاز الحقيقي.
ومن الواضح أن رئيس الجمهورية أراد، في الوقت الضائع، أن يوجِّه رسالة صوتية تعبِّر عن استعداد لبنان لملاقاة المساعي الأميركية للسلام، لكنها رسالة معلّقة التنفيذ بانتظار التطورات العسكرية التي تُرغم "حزب الله" على التخلي عن سلاحه. ويلاحظ أن التصعيد الإسرائيلي بدأ يتدرّج بشكل تصاعدي، ولم تعد استهدافاته تقتصر على المنشآت العسكرية وعناصر "الحزب"، بل باتت تطال الجرافات والشاحنات، في رسالة واضحة مفادها أن العقبة أمام إعادة الإعمار لا تقتصر على غياب التمويل الخليجي، الذي يربط المساعدات باحتكار الدولة للسلاح، بل إن إسرائيل نفسها دخلت على هذا الخط، وللمرة الأولى خلافًا لما حدث في حرب 2006، ما يعني أنها رفعت منسوب الضغط على "الحزب" بربط الإعمار بتسليم السلاح.
ولا ينبغي التقليل من أهمية رسالة رئيس الجمهورية، ولو كانت صوتية، لأنه أكد من خلالها أن الدولة اللبنانية لا تتبنى المقاربة الأيديولوجية لـ "حزب الله" تجاه إسرائيل، وأن العقبة أمام المفاوضات الجدية ليست مبدئية، بل مرحلية وظرفية. وقد التقط "الحزب" هذه الرسالة، مدركًا أن ميزان القوى على الأرض إما يُبقي مفاعيلها مجمدة، أو يضع لبنان وجهًا لوجه مع إسرائيل.
وقد عبّر "الحزب" عن رفضه مبدأ المفاوضات بسلاسة، لأنه يتجنب الدخول في مواجهة مع رئيس الجمهورية، في ظل مواجهته المفتوحة أساسًا مع رئيس الحكومة، ولا يريد أن يصبح مكشوفًا ويضع الرئيسين في مواجهته، رغم أن عون حاول ترييحه بالكلام عن نسخة جديدة من المفاوضات البحرية، في حين يعلم الرئيس، ويعلم "الحزب" أيضًا، أن المرحلة الحالية تختلف جذريًا عن مرحلة الترسيم البحري، وأي تفاوض سيكون بأفق السلام.
وفي خلاصة هذا المشهد، فإن رئيس الجمهورية حاول كسر الجمود الذي دخله لبنان في ملف السلاح، وقد تلقت الدوائر الأميركية رسالته بترحيب، فيما تلقتها دوائر "الحزب" بقلق شديد، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يكتفي رئيس الجمهورية بهذا القدر ويتوقف عند هذا الحدّ بعد أن جسّ النبض ووجّه رسائله باتجاه واشنطن والضاحية، أم يخطو خطوة إلى الأمام بموافقته على تفاوض من دون شروط وتحت النار؟ وكيف سيكون موقف "حزب الله"؟ وفي أي اتجاه ستتحرّك الولايات المتحدة، فهل ستنتظر نتنياهو، أم ستفصل بين المسار العسكري الذي تتولاه إسرائيل، والمسار التفاوضي الذي تتولاه بنفسها؟