Search Icon

بانوراما أميركيّة للمنطقة...كيف يكتمل عقدها؟

منذ ساعتين

أقلام حرة

بانوراما أميركيّة للمنطقة...كيف يكتمل عقدها؟

الاحداث- كتب أنطوان العويط

ما تشهده العلاقات الأميركيّة - العربيّة اليوم لا يمكن اختزاله في تبدّلٍ تكتيكيّ أو تعديلٍ في أدوات التواصل الدبلوماسيّ، بل هو تحوّلٌ استراتيجيّ عميق نحو إعادة تطبيع هذه العلاقات وإعادة تثبيت ركائزها بعد عقدٍ ونيفٍ من الاضطراب والانسحاب الأميركيّ عن المنطقة.
منذ تراجع واشنطن عن دورها التاريخيّ والجدليّ كضامنٍ مبدئيّ لاستقرار الشرق الأوسط ووازنٍ لمعادلاته، انكشفت الساحات العربيّة، من دون احتساب العامل الإسرائيليّ الثابت، أمام موجات تمدّدٍ متعدّدة الوجوه. في مقدّمها التمدّد الإيرانيّ الذي رسّخ نفوذه في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، مشكّلًا قوسًا من الولاءات أُطلق عليه اسم "الهلال الشيعيّ"، كطوق يمتدّ من طهران حتى شواطئ المتوسط. وفي الجهّة المقابلة، ارتفع جناح إخوانيّ سياسيّ رفع راية الإسلام الحركيّ لتقويض الأنظمة من الداخل، فيما اكتفت واشنطن بالحضور الخافت في الظلال، وكان تردّدها عاملاً حاسمًا في تحويل الطموح نحو الديمقراطيّة إلى واقعٍ فوضويّ أعاد خلط أوراق المنطقة لعقدٍ كامل. أمّا التمدّد الثالث، فكان أشدَّ دمويّة، تمثّل في تنظيم "داعش" الذي خرج من رحم الفوضى ليحرق ما تبقّى من الجغرافيا والمجتمعات، محوّلًا المنطقة إلى كابوسٍ من الدم والنار.
هكذا، تهاوى ميزان القوى العربيّ واهتزّت منظومة الأمن الإقليميّ برمّتها، في غياب المرجعيّة الدوليّة التي مثّلتها الولايات المتّحدة، حتّى بدا المشهد العربيّ وكأنّه يبحث، من دون دعوة، عن عودة مختلفة لا بدّ منها للراعي القديم.
كسر عهد دونالد ترامب الجديد هذا الفراغ المديد باسترجاع مدروس لزمن النفوذ التقليديّ، لكن بوسائل وآليّات تواكب منطق القرن الحادي والعشرين، حيث تمتزج القوّة بالصفقة، والسياسة بالاقتصاد، والدبلوماسيّة بالتكنولوجيا.
فالرئيس الذي اختار الرياض محطّته الخارجيّة الأولى في أيّار الماضي، أراد أن يُشهر من قلب الجزيرة العربيّة ومهد التحالفات النفطيّة والسياسيّة منذ أربعينات القرن الماضي، إعلان العودة الأميركيّة الكبرى والصريحة إلى الشرق الأوسط بعد فترة من التحفّظ والانكفاء، معيدًا تثبيت التحالف التاريخيّ مع المملكة بوصفه الركيزة الأولى للاستقرار الإقليميّ. 
ولم تتوقّف الإشارات عند البوابة السعوديّة، بل تمدّدت إلى القاهرة وعمّان ومسقط  وغيرها، كما إلى الخليج العربيّ بأسره، لتعبّر عن شبكة انبعاثٍ جديدة للنفوذ الأميركيّ تسعى إلى إعادة ضبط إيقاع المنطقة على الموجة ذاتها. 
وبعد تسوية غزّة الأخيرة، خطت واشنطن خطوةً انقلابيّة لافتة حين فتحت أبواب البيت الأبيض أمام الرئيس السوريّ أحمد الشرع، بعد رفع اسمه عن لائحة الإرهاب، في إشارةٍ إلى مشروعٍ أوسع لإعادة رسمٍ للدور السوريّ داخل الترتيبات المقبلة، لا كملحقٍ سابق بمحورٍ منهك، بل كطرفٍ قيد التأهيل لمرحلة ما بعد سقوط المحاور التقليديّة.
بهذا، تُعيد واشنطن رسم الخريطة السياسيّة للشرق الأوسط وفق منطقٍ جديدٍ لا يقوم على الاصطفافات الجامدة بل على الاندماج التدريجيّ في نظامٍ إقليميّ مرن، تتلاقى فيه العواصم المتنازعة ضمن منظومة مصالح متقاربة، حيث يصبح الأمن مشتركًا، والاقتصاد مترابطًا، والسياسة ساحة تفاهمٍ لا ساحة تصادم.
وفي سياق متّصل، لا يمكن فصل العودة الأميركيّة النشطة إلى الجنوب السوريّ عن المخطّط الأوسع الذي ترسمه واشنطن للمنطقة بأسرها. فالقاعدة العسكريّة التي يجري الحديث عن استحداثها هناك، لن تكون تكرارًا لنقاط المراقبة القديمة التي رافقت اتفاق "فكّ الاشتباك" بين حافظ الأسد وهنري كيسنجر قبل نصف قرن، والذي يُعدّ إحدى المحطّات المفصليّة في تاريخ الصراع العربيّ - الإسرائيليّ، ومن أبرز النتائج السياسيّة لحرب تشرين 1973، بل ركيزة ميدانيّة في مشروعٍ جيوسياسيّ متكامل، تسعى واشنطن من خلاله إلى تحويل المخمّس الحدوديّ - السوريّ، العراقيّ، الأردنيّ، اللبنانيّ، الإسرائيليّ - إلى منطقةٍ آمنة ومستقرّة تشكّل البوّابة إلى تسويةٍ سياسيّةٍ وتاريخيّةٍ كبرى.
بالمنظار الأميركيّ، تبدو الصورة بانوراما متكاملة الحلقات، لا يكتمل عقدها ولا تتوحّد عناصرها إلاّ بإقفال الملفّ الإيرانيّ. ولا يمكن إدخال تعديلٍ جوهريّ عليها إلّا في حال وقوع حدثٍ كبيرٍ، من وزنِ رحيل أحد القادة الكبار، في المنطقة أو في العالم، أو تبدّلٍ جذريٍّ في المشهد السوريّ، أو سقوطِ نتنياهو نفسه. 
في هذه الأثناء، تبدأ واشنطن في هندسة مرحلة تطبيع استراتيجيّ محسوب، يُراد منه إدخال دمشق تدريجيًّا ضمن إطار اتفاقات أبراهام، ليصبح السلام السوريّ - الإسرائيليّ جزءًا طبيعيًّا من منظومة الشرق الأوسط الجديدة. والدول الموقّعة أو تلك المدعوّة، ستكون شريكًا أمنيًّا واقتصاديًّا ضمن فضاء يمتد من المتوسّط إلى الخليج، ومنه إلى آسيا الوسطى، تحت مظلّة أميركيّة جامعة تعيد تعريف مفاهيم العداء والسلام معًا، وتحوّل الصراع من ميدان الجبهات إلى ساحة المصالح والتكامل.
في قلب هذه التحوّلات، وفي لحظة العودة الأميركيّة الكبرى إلى المشرق، يبدو لبنان عالقًا بين مشروعين متناقضين، يقف على مفترقٍ مصيريٍّ دقيق تتقاطع عنده احتمالات الانزلاق إلى الهاوية وفرصة الانطلاق نحو الإنقاذ.
تنظر واشنطن إلى لبنان كحلقةٍ لا يمكن تركها خارج المعادلة الجديدة، وكأرضٍ تصلح، متى نضجت الظروف وتراجع منطق المحاور، لأن تتحوّل من ساحة اشتباكٍ بالوكالة إلى ساحة حيادٍ ضامنٍ للتوازن بين العرب والإيرانيين والإسرائيليين على السواء.
هكذا يُستعاد لبنان، في المخيّلة الأميركيّة، كجسرٍ حضاريٍّ وسياسيٍّ بين الأفرقاء، لا كجبهةٍ متقدّمة في حروب الآخرين، بل ككيانٍ يمكن أن يعود إلى لعب دوره الطبيعيّ مختبرًا للتعايش، وحيّزًا للالتقاء لا للاقتتال. لكنّ هذا التحوّل لن يتمّ إلا إذا استعاد لبنان قراره السياديّ الحرّ، وانعتق من دوامة الانقسام والولاءات المتنازعة. فهل يحصل الأمر؟!