الاحداث- كتب أنطوان العويط
هُنَاكَ لَحَظَاتٌ فِي التَّارِيخِ لَا تَحْتَمِلُ الحِيَادَ وَلَا تَسْمَحُ بِالمُرَاوَغَةِ، لَحَظَاتٌ يَخْرُجُ فِيهَا الكَلَامُ مِنْ فَمِ الدَّوْلَةِ كَالسَّهْمِ، فَيَكْسِرُ جِدَارَ الصَّمْتِ وَيَفْتَحُ البَابَ عَلَى مُنْعَطَفٍ لَا عَوْدَةَ مِنْهُ.
هَذَا مَا فَعَلَهُ رَئِيسُ الجُمْهُورِيَّةِ العِمَادُ جُوزَاف عَوْن، حِينَ سَمَّى سِلَاحَ "حِزْبِ اللهِ" بِالاِسْمِ، وَوَسَمَهُ بِأَنَّهُ سِلَاحٌ خَارِجٌ عَنِ الدَّوْلَةِ.
لَمْ يَكُنْ تَصْرِيحًا عَابِرًا، بَلْ إِعْلَانُ مَوْقِفٍ يَضَعُ الدَّوْلَةَ وَجْهًا لِوَجْهٍ أَمَامَ التَّحَدِّي الأَكْبَرِ فِي تَارِيخِ عِلَاقَتِهَا بِالحِزْبِ، لَحْظَةٌ انْكَشَفَتْ فِيهَا الحَقَائِقُ بِلَا مَسَاحِيقَ، وَسَقَطَتْ فِيهَا لُغَةُ الهَمْسِ لِصَالِحِ نَبْرَةِ الجَهْرِ.
هَذَا الوُضُوحُ وَجَدَ طَرِيقَهُ إِلَى قَرَارَاتٍ تَنْفِيذِيَّةٍ فِي مَجْلِسِ الوُزَرَاءِ، بِرِئَاسَةِ نَوَّاف سَلَّام، الَّذِي أَدَارَ الجَلَسَاتِ بِحَزْمٍ وَحِرْفِيَّةٍ.
جَلْسَتَانِ مُتَتَالِيَتَانِ حُسِمَ فِيهِمَا أَمْرُ حصر السِّلَاحِ غَيْرِ الشَّرْعِيِّ، وَبَسْطِ سُلْطَةِ الدَّوْلَةِ عَلَى كَامِلِ الأَرَاضِي، وَإِقْرَارِ وَرَقَةِ الأَهْدَافِ الَّتِي رَفَعَهَا المُوَفَّدُ الأَمِيركِيُّ.
بَدَتِ الدَّوْلَةُ، وَكَأَنَّهَا لِلْمَرَّةِ الأُولَى مُنْذُ عُقُودٍ، تُقْدِمُ عَلَى مُغَامَرَةِ الاِنْتِقَالِ مِنْ زَمَنِ المُسَاكَنَةِ القَسْرِيَّةِ إِلَى زَمَنِ احْتِكَارِ المَوْقِفِ، وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ مَحْفُوفًا بِالمَخَاطِرِ.
غَيْرَ أَنَّ الاِعْتِرَاضَ لَمْ يَتَأَخَّرْ؛ فَقَدِ انْسَحَبَ وُزَرَاءٌ، وَتَزَامَنَتِ الجَلْسَةُ الأُولَى مَعَ خِطَابِ الشَّيْخِ نَعِيم قَاسِم رَافِضًا تَسْلِيمَ السِّلَاحِ، وَاسْتِعْرَاضِ ليليّ مسائيّ للدَّرَّاجَاتِ النَّارِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ "القُمْصَانِ السُّودِ" فِي تَذْكِيرٍ صَرِيحٍ بِسَبْعَةِ أَيَّارَ جَدِيدٍ، تَلَاهُ تَصْعِيدٌ كَلَامِيٌّ مِنْ قِيَادِيِّينَ فِي الحِزْبِ عَلَى طَرِيقَةِ "تَبْلِيطِ البَحْرِ" رَفْضًا لِأَيِّ تَغْيِيرٍ.
رَافَقَ هَذَا الاِحْتِجَاجَ مَا بَدَا كَأَنَّهُ صَحْوَةٌ مُتَأَخِّرَةٌ لِطَهْرَانَ عَلَى وَقْعِ الزَّلَازِلِ الإِقْلِيمِيَّةِ المُتَلَاحِقَةِ.
فَجاءَ الصَّوتُ الدِّبلوماسيُّ أوَّلًا عَبرَ وَزيرِ الخارجيَّةِ، عَباس عِراقجي، لِيُعلِنَ، بِنَبرةِ تَحَدٍّ واضِحَةٍ، أَنَّ خُطَّةَ نَزعِ سِلاحِ "حِزبِ اللهِ" لَن تَرى النُّورَ.
ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ العَسكريُّ الأوَّلُ، مُمَثَّلًا بِنائِبِ الشُّؤونِ التَّنسيقيَّةِ في فيلَقِ القُدسِ، لِيَحكُمَ على السِّيناريو بِالمَوتِ الأَبديِّ، مُؤَكِّدًا أَنَّ أَصحابَهُ سَيَحمِلونَهُ مَعَهُم إلى القُبورِ.
وَمِن قِمَّةِ الهَرمِ السِّياسيِّ، خَرَجَ مُستَشارُ المُرشِدِ الأَعلى، عَلِي أَكبَر وِلايتي، لِيَصُبَّ رَفضًا قاطِعًا على قَرارِ الحُكومَةِ اللُّبنانيَّةِ.
وَلَحِقَ بِهِ أَمينُ المَجلِسِ الاستراتيجيِّ الإيرانِي، عَلِي باقِري، مُذَكِّرًا بِأَنَّ "حِزبَ اللهِ" لَيسَ مَجرَّدَ ذِراعٍ سِياسيَّةٍ أَو عَسكريَّةٍ، بَل قُوَّةٌ مُتَجَذِّرَةٌ في وِجدانِ اللُّبنانيِّينَ، عَصِيَّةٌ على الاقتِلاعِ.
وَاكتَمَلَ المَشهَدُ بِوُصولِ رَئيسِ مَجلِسِ الأَمنِ القَوميِّ، عَلِي لاريجانِي، إلى بَيروتَ، فيما بَدا عَرضًا مُتَكامِلَ الأَركانِ لِلقُوَّةِ.
إِنَّهُ تَحَرُّكٌ إيرانيٌّ لِإِعادَةِ تَجميعِ الأَوراقِ وَتَرتيبِ رُقعَةِ الصِّراعِ، وَتَهيِئَةِ أَرضِيَّةٍ جَديدةٍ لِلتَّفاوُضِ، بَعدَما بَلَغَتِ استراتيجيَّة طهران الطَّويلَةُ مَع واشنطُن سَقفَها الأَقصى، وَاستُنفِدَت طاقَتُها حَتَّى الرَّمَقِ الأَخيرِ.
إلاّ أنّ الحَقَائِقَ الاستراتيجيّة َباتت في مكان آخر.
اليَوْمَ، يَقِفُ وَطَنُنَا أَمَامَ لَحْظَةٍ تَأْسِيسِيَّةٍ لِمَسَارٍ بِنْيَوِيٍّ طَالَ انْتِظَارُهُ لُبْنَانِيًّا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مَطْلَبًا دُوَلِيًّا، وَكَشَرْطٍ أَسَاسِيٍّ لِإِعَادَةِ تَشْكِيلِ الدَّوْلَةِ فِي مَفْهُومِهَا وَجَوْهَرِهَا.
مَسَارٌ يَحْتَاجُ إِلَى إِرَادَةٍ سِيَاسِيَّةٍ وَطَنِيَّةٍ صَلْبَةٍ، وَكُلُّ الرَّجاءِ أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً وَشَامِلَةً، تَعْتَرِفُ أَنَّ بَقَاءَ لُبْنَانَ فِي دَائِرَةِ الاِلْتِبَاسِ لَمْ يَعُدْ مُمْكِنًا. إِمَّا أَنْ تُتَرْجَمَ هَذِهِ اللَّحْظَةُ إِلَى بِنَاءِ دَوْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِسِلَاحٍ وَاحِدٍ، أَوْ تَتَحَوَّلَ إِلَى فُرْصَةٍ ضَائِعَةٍ تَضِيعُ مَعَهَا آخِرُ أَوْرَاقِ الإِنْقَاذِ.
لَقَدْ نَطَقَتِ الدَّوْلَةُ، وَلَكِنَّ الكَلِمَةَ، مَا لَمْ تَتْبَعْهَا الأَفْعَالُ، بِالْوَعْيِ الثَّاقِبِ وَالْفَطْنَةِ البَلِيغَةِ، وَحُسْنِ التَّدَبُّرِ الرَّشِيدِ وَالتَّقْدِيرِ السَّلِيمِ، وَمِنْ دُونِ عَنْتَرِيَّاتٍ فَارِغَةٍ، تَبْقَى حِبْرًا عَلَى وَرَقٍ، وَصَوْتًا يَتَلَاشَى فِي عَاصِفَةٍ. فَهَلْ نَحْنُ عَلَى مَشَارِفِ فَجْرٍ يُطِلُّ عَلَى لُبْنَانَ جَدِيدٍ، أَمْ أَمَامَ شَمْعَةٍ أَخِيرَةٍ تَنْطَفِئُ فِي لَيْلِ الاِنْتِظَارِ؟
المَسَارُ، مِنْ نَاحِيَةٍ، هُوَ حَتَّى الآنَ جَرِيءٌ وَمُبَاشِرٌ، كَنَافِذَةٍ تُزِيحُ سَتَائِرَهَا لِبُصَيْصِ ضَوْءٍ يَتَسَلَّلُ بَيْنَ جُدْرَانِ لَيْلٍ مُلَبَّدٍ.
والْفُرَصُ من ناحيةٍ ثانية، لَا تَأْتِي مُطَاوِعَةً، وَلَا تَطْرُقُ أَبْوَابَنَا مَرَّتَيْنِ. وَهِيَ اليَوْمَ، تَحْمِلُ وَعْدًا يَتَلَأْلَأُ فِي عُمْقِ الإِعْصَارِ، يَنْتَظِرُ مَنْ يَقْبِضُ عَلَيْهِ بِيَدِ الإِرَادَةِ، لَا مَنْ يُسَاوِمُ أَوْ يَتَلَكَّأُ.
إِنَّهُ زَمَنُ التَّبَصُّرِ الشُّجَاعِ وَالحِكْمَةِ الصَّائِبَةِ، زَمَنُ الاِرْتِفَاعِ فَوْقَ الضَّغَائِنِ وَالأَهْوَاءِ الضَّيِّقَةِ.
لَا مَكَانَ اليَوْمَ لِحُرُوبِ الطَّوَائِفِ، وَلَا لِشَتَائِمِ المَنَصَّاتِ، وَلَا لِبُطُولَاتِ الوَرَقِ، وَلَا لِوَلَاءَاتٍ لِخَارِجِ الحُدُودِ. فَكُلُّ ذَلِكَ رَمَادٌ لَا يُقِيمُ وَطَنًا، وَلَا يُسْنِدُ جِدَارًا، وَلَا يَفْتَحُ دَرْبًا نَحْوَ الغَدِ.
هي لَحْظَةٌ حَاسِمَةٌ، أَخِيرَةٌ، فِي زَمَنٍ ضَاقَ بِنَا وَضِقْنَا بِهِ، حَتَّى صِرْنَا شَعْبًا عَلَى حَافَّةِ العَدَمِ، وَأَرْضًا بِلَا بُوصْلَةٍ، وَسَفِينَةً بِلَا نَجْمَةٍ، وَغَابَةَ زَيْتُونٍ بِلَا غُصْنِ سَلَامٍ.
أَعْرِفُ، كَمَا يَعْرِفُ كُلُّ مَنْ ذاقَ مَرَارَةَ الاِنْكِسَارِ، أَنَّ ضَيَاعَهَا سَيَقْذِفُ بِنَا إِلَى دَوَّامَةٍ لاَ مَخْرَجَ مِنْهَا.
إِنَّهَا فُرْصَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ خَجُولَةً أَوْ مُتَوَاضِعَةً، وَرُبَّمَا أَكْثَرَ إِشْرَاقًا وَوَعْدًا، فَهِيَ خَلَاصٌ مِنْ رِهَانِ الْجُنُونِ وَالِانْتِحَارِ.
وقد يحدث أنّ، إِذَا اِقْتَرَنَ القَوْلُ بِالفِعْلِ، تَتَحَوَّلُ إِلَى فَجْرٍ جَدِيدٍ، أَوْ إِلَى اِسْتِقْلَالٍ ثَالِثٍ يَكْتُبُهُ التَّارِيخُ.
إنّ في َاغْتِيَالُهَا خِيَانَةٌ، وَالخِيَانَةُ عَارٌ لَا يُغْتَفَرُ.