الاحداث- كتبت ندى أيوب في صحيفة الاخبار :"انتهت جلسة مجلس الوزراء، بتاريخ 23 تشرين الأول 2025، لتكون علامة فارقة في تخلّي الدولة، ليس عن واجباتها تجاه شعبها، بل لتخلّيها عن المزيد من سيادتها وحقوقها. وارتكبت حكومة التفليسة وتصفية الحقوق، الخطأ الاستراتيجي الجسيم في ملفَّي الترسيم البحري مع قبرص، والتنقيب عن النفط والغاز جنوباً.
في الأول قرّرت الحكومة السير بمشروع الترسيم البحري، وفق اتفاق العام 2007، الذي يعني عملياً التخلّي عن 5000 كلم مربّع، من مياه لبنان الاقتصادية الخالصة مع قبرص. وفي الثاني، منحت الحكومة شركة «توتال» حقّ الاستكشاف والإنتاج في البلوك الرقم 8، رغم ما يحيط بهذه الاتفاقية من أمور تثير الريبة، تؤخّر عملية الاستكشاف سنوات.
في ملف التنقيب، خضع وزير الطاقة جو صدي، ومعه مجلس الوزراء، لطلب «توتال»، إجراء مسح في البلوك 8 «في أثناء 3 سنوات»، قبل أن تقرّر ما إذا كانت ستبدأ بعمليات الحفر! مقابل الإطاحة، بعرض شركة TGS النروجية - الأميركية، بإجراء مسح ثلاثي الأبعاد لـ 1200 كلم مربّع في البلوك الرقم 8، بما يوفّر بيانات تسدّ الفجوة في المعلومات الجيولوجية حول هذا البلوك، علماً أنّ العرض كان من دون مقابل مادي. إضافة إلى التزام TGS لمعالجة البيانات على امتداد البحر اللبناني ودمجها وعرضها على شركات الاستكشاف العالمية، والترويج والتسويق لدورات التراخيص.
لكنّ الكارثة تمثّلت في المصادقة على خطّة الترسيم البحري مع قبرص، وفق دراسة ضعيفة، وبحجج أكثر ضعفاً، تعكس عدم وجود استعداد حقيقي لدى هذه السلطة للقيام بكل متطلّبات هذا التحدي. فاستمع الوزراء إلى عرضِ مندوب الجيش الضابط البحري مازن بصبوص، مستنداً إلى رأي قانوني للخبير نجيب مسيحي.
قدّم مسيحي وبصبوص، دراسة تتبنّى اتفاقية العام 2007 بين لبنان وقبرص، التي تعتمد على مبدأ خطّ الوسط. وأنّ «لبنان في العام 2011، أودع رسمياً الأمم المتحدة إحداثيات نقاط حدوده البحرية بموجب المرسوم 6433، وأنّ تقرير UKHO البريطاني عام 2011 الذي طلبته الحكومة آنذاك، أكّد أنّ للبنان حقّ إضافي لناحية ترسيم الحدود البحرية جنوباً، لم يلحظ أنّ للبنان حقّاً إضافياً باتجاه قبرص».
وسلّم العرض جدلاً برأي معدّه أنّ الشاطىء اللبناني، أطول من الشاطىء القبرصي، ضمن نسبة (1 /1.8)، ليخلُص إلى أنّ محكمة البحار الدولية لن تعتبر أنّ هذه الفروقات كبيرة، بشكلٍ يستدعي إدخال تعديلات على خطّ الوسط. بمعنى أوضح، جزم الفريق المسؤول عن العرض أنّ لبنان لن يحصل على مساحات إضافية من المياه الاقتصادية، إذا ما قرّر الذهاب إلى تحكيم دولي.
ركّز عرض الخبيرين مسيحي وبصبوص في جلسة الحكومة على تكريس فكرة أنّ اللجوء إلى التحكيم يعني خسارة المعركة
العرض نفسه، نسف أي حق للبنان في تعديل المرسوم 6433، منطلقاً من أنّه «يحق للبنان التعديل لناحية الحدود الجنوبية، كونه تمّ حفظ حقّه بالتعديل بموجب المادة 3 من المرسوم 6433، المودع لدى الأمم المتحدة، والعدو الإسرائيلي لم يعترف بالخط 23، بل رسم حدوده الشمالية مع لبنان وفق الخط رقم 1، غير القانوني، ممّا أدّى إلى خلق منطقة متنازع عليها في مياهنا البحرية». وأوحى عرض بصبوص، إلى أنّ «الذهاب إلى التحكيم من أجل تعديل المرسوم، قد يؤدّي إلى خسارة المعركة».
مقابل هذا المنطق، يمكن تعديل المرسوم 6433، وفق المادة الثالثة منه، التي نصّت بوضوح على أنه «يمكن مراجعة خطّ الحدود البحرية وتحسينه وتعديل لوائح إحداثيّاته، في حال توافرت بيانات أكثر دقّة، وعلى ضوء المفاوضات مع دول الجوار المعنيّة». وما يمنع لبنان من تعديل المرسوم بالاستناد إلى Estoppel principle، هو أن تكون الجهة المعارضة للتعديل (قبرص في هذه الحال) قد قبلت بالاتفاق وبنت مصالحها على هذا الأساس، ما يجعل أي تعديل يُلحِق الضرر بها.
وهذا الشرط لا ينطبق على قبرص، لأسباب عدّة: لم تقبل قبرص بالاتفاقية. وفي أثناء المفاوضات الرسمية الوحيدة بين لبنان وقبرص، في نيقوسيا عام 2011، شرح الجانب اللبناني أنّ اتفاق الترسيم بين قبرص وإسرائيل، تسبّب بضرر للبنان، فأوضح الجانب القبرصي، أنّ الاتفاقية لم تُصدَّق بعد وأنّ من حق الطرف القبرصي، الدخول في مفاوضات مع إسرائيل، وأقرّ بأنّ الاتفاقية مع لبنان، تتضمّن إمكانية التعديل بعد تصديقها. إضافة إلى أنّ الاتفاقية لم تُصدَّق وهي غير سارية المفعول. ولم ترسّم قبرص حدودها رسمياً مع لبنان، بل عيّنت حدود بلوكات النفط التي تدّعي ملكيّتها، وهذا لا يُعدّ ترسيماً. ولبنان لن يضرّ بمصالح قبرص، في حال إعادة التفاوض لأنّ أيّ تنقيب لم يبدأ في البلوكات القبرصية القريبة من الخط مع لبنان.
عملياً صادقت الحكومة على توصيات مسيحي وبصبوص، متجاهلة وجهات نظر تتّصل بالمبادىء التي تُعتمد في الترسيم بالبحري بين الدول، بناءً على قرارات صادرة عن المحاكم الدولية ذات الصلة (محكمة العدل الدولية ومحكمة قانون البحار)، والتي تعتمد ليس فقط على منهجية خطّ الوسط، بل تأخذ في الاعتبار مبدأ «الإنصاف»، وذلك استناداً إلى منهجية ثلاثية، تبدأ بخطّ وسط مبدئي وتعديله استناداً إلى «الظروف الخاصة» و«تناسب أطوال الشواطئ»، وأخيراً اختبار الفروقات المفرطة (disproportionality)، للتأكّد من أنّ المساحة الممنوحة متناسبة مع طول الساحل.
وإلى ذلك، ينبغي مراعاة التفاوت الجغرافي والديموغرافي بين البلدين لصالح لبنان، وهو ما يتماشى مع روح اجتهادات محكمة قانون البحار التي جعلت الإنصاف «في قلب عملية الترسيم» (كما في قضية بنغلاديش ضد ميانمار، 2012). أمّا التطبيق الحرفي لخطّ الوسط، فيفيد قبرص (الدولة الجزيرة المحاطة بالساحل من كل الجهات) على حساب لبنان (الدولة ذات الساحل القصير)، ما ينتهك مبدأ «النتيجة المنصفة» الوارد في المادتين 74 و83، من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
وكانت دراسة أعدّها مركز الاستشارات القانونية والأبحاث (كان يديره السفير سعد زخيا) في الخارجية اللبنانية، عام 2014، خلصت إلى أنّ لبنان خسر 2643,85 كيلومتراً مربّعاً، لأنّ الاتفاق مع قبرص، لم يأخذ في الاعتبار اعتماد فرق طول الشاطئ بين البلدين، ومنهجية الترسيم المنصف ومبدأ التناسب. واللافت أنّ دراسة حديثة لمصلحة الهيدروغرافيا في الجيش اللبناني، استعانت بأحدث طرق الاحتساب والقياسات والأقمار الاصطناعية وبتطبيق علمي لمنهجية الترسيم وتناسب أطوال الشواطئ، بيّنت أنّ لبنان فقد بموجب اتفاق 2007، مساحة تُقدّر بأكثر من 5,000 كلم مربّع، من منطقته الاقتصادية الخالصة.