الاحداث- كتب ماهر سلامة في صحيفة الاخبار يقول:"في السنوات الأخيرة، تحوّل تركيز النقاش إلى القطاع العام ومؤسساته. يعود ذلك إلى أسباب عديدة، أهمّها وجود جهات مهتمّة بشكل كبير بأحوال القطاع العام وإيراداته المستقبلية، وذلك ضمن سياق حلّ الأزمة المصرفية. ويتوقّع البعض أن تقوم الدولة باستخدام إيراداتها المستقبلية لسداد الخسائر التي وقعت في القطاع المصرفي.
يتقاطع هذا الأمر مع النزعة النيوليبرالية لمؤسسات التمويل الدولي، مثل صندوق النقد، إذ يتم تحفيز البلدان على التخلّي عن دور القطاع العام في الاقتصاد، وذلك عبر «ترشيد» موازناته وتحسين «الحوكمة» في هذا القطاع.
يرتكز تقرير صندوق النقد الدولي بشأن الحوكمة والفساد في لبنان على تقييم شامل أجرته بعثة الصندوق بطلب من السلطات اللبنانية. ويغطي هذا التقرير المدّة بين تشرين الأول 2022 ونيسان 2023، وشمل ثلاث بعثات ميدانية تناولت الإدارة الضريبية والجمركية، وسيادة القانون ومكافحة غسل الأموال، وإدارة المالية العامة.
التقرير مقسوم إلى قسمين، الأول يوصّف أوضاع الحوكمة والفساد في الملفات المذكورة، أما الثاني فهو عبارة عن توصيات عمل لتحسين هذه الأوضاع.
من أبرز توصيات صندوق النقد، اقتراح تصنيف المؤسسات التابعة للقطاع العام إلى أربع فئات: مؤسسات يجب تصفيتها أو حلّها، وثانية يُفترض دمجها، وثالثة ينبغي تحويلها إلى مؤسسات عامة تخضع مباشرة لإمرة الحكومة، ورابعة يُوصى بالإبقاء عليها كما هي.
يشكّل هذا التصنيف تمهيداً لتقليص عدد مؤسسات القطاع العام، إذ يستند إلى معايير دولية تقوم في جوهرها على الحدّ من دور الدولة في الاقتصاد. ما يسمح بالاعتقاد أنه لا يمكن فصل هذا التصنيف عن التوجّه العام نحو تقليص دور الدولة، ونوعية تدخّلها في الدورة الاقتصادية.
من ناحية أخرى، يوصي التقرير بالحاجة إلى «إصلاح شامل لقانون المؤسسات العامة وفق معايير دولية». الفكرة هنا، هي أنّ هذا القانون بحسب توصيات الصندوق يجب أن يشمل «إدخال أساس منطقي قوي وواضح للملكية العامة، بالإضافة إلى إجراءات ومتطلّبات صارمة لإنشاء مؤسسات جديدة مملوكة للدولة تكون مستدامة مالياً وتشغيلياً».
ما يعني أنّ القانون الجديد يجب أن يبرّر وجود أي مؤسسة تملكها الدولة، بمعنى إعادة تعريف دور الدولة في تملّك مؤسسات.
تتضمّن التوصيات، تقليص دور الوزارات في ما يخصّ المؤسسات العامة، عبر فصل الأدوار ونقل الصلاحيات لصالح «مجلس إدارة مستقلة»
كما تتضمّن التوصيات، تقليص دور الوزارات في ما يخصّ المؤسسات العامة، عبر الدعوة إلى فصل الأدوار وسحب الصلاحيات من الوزارات لصالح «مجلس إدارة مستقلة»، ما يقود إلى تحويل المؤسسات العامة إلى هيئات شبه خاصّة. وبالتالي، فإنّ خروج الوزارات من إدارة ومراقبة هذه المؤسسات، يجعل تطبيق السياسات العامّة، اقتصادية كانت أو إنمائية، أصعب بكثير وعرضة للعوائق الإدارية. وهذا الأمر يُقرّب واقع القطاع العام في لبنان من الرؤية النيوليبرالية لمؤسسات التمويل الدولي.
مشكلة أساسية في التقرير نفسه، إذ لا يوجد أي ذِكر أو تلميح حتى للوظيفة الاجتماعية والتنموية للقطاع العام، وهو ما يظهر عبر استخدام مصطلحات تدور حول الربحية والأداء (المالي) والكفاءة والمخاطر المالية فقط.
وهذا يعكس حقيقة نظرة صندوق النقد إلى دور الدولة بشكل عام، كفاعل اقتصادي فقط.
في حين أنّ دور القطاع العام، لا يعني الاقتصاد فقط، حتى لو أنّ هناك إمكانية حقيقية لتأدية القطاع العام دوراً هاماً وفاعلاً في الاقتصاد، بل يعني الاهتمام بالجانب الاجتماعي أيضاً، لضمان رفاه الشعب وتأمين حاجاته، والجانب التنموي، الذي ينعكس بشكل غير مباشر على الاقتصاد عبر تأمين بنى تحتية تسهّل الحركة الاقتصادية وتجعلها أكثر ربحية وأكثر قابلية للتوسّع.
يركز الصندوق في تقريره على خمس وظائف أساسية للدولة اعتبرها الأكثر عرضة للفساد: إدارة المالية العامة، الإشراف على القطاع المالي، حوكمة المصرف المركزي، سيادة القانون، ومكافحة غسل الأموال.
وقد خلص الصندوق إلى أنّ هذه المجالات تعاني من نقاط ضعف كبيرة في الحوكمة، ما «يجعلها بيئة خصبة للفساد المنهجي وغياب المساءلة». ويوصّف التقرير المشاكل في هذه الوظائف الخمس بشكل تقني، وهو بشكل عام توصيف دقيق للمشاكل نوعاً ما.
أمّا بما يخص إدارة المالية العامة، فإنّ التقرير يسجّل غياب إطار قانوني حديث، وانتشار الإنفاق خارج الموازنة، وضعف الرقابة. كما يشير إلى أنّ عدداً من أكبر المؤسسات العامة لم تقدّم بيانات مالية مدقّقة منذ أكثر من عقدين.
ويضيف أنه رغم صدور قانون جديد للشراء العام، فإنّ تطبيقه لا يزال متعثّراً بسبب التأخّر في إنشاء الهيئات اللازمة.
ويعتبر التقرير أنّ آليات التعيين في المؤسسات العامة ومجالس إداراتها تتم على أسس طائفية، وهناك تغييب للمعايير المرتبطة بالكفاءة و الاستقلالية.
ويذكر التقرير أمثلة عن مؤسسات عامة مثل كهرباء لبنان، وقطاع الاتصالات، وشركة طيران الشرق الأوسط، إذ تختلف أطر الحوكمة باختلاف المراسيم والقوانين الخاصة بكل منها، ما يزيد من صعوبة الرقابة ويخلق بيئة غير موحّدة في الأداء والمساءلة.
الصندوق: لا أدوات لمحاربة الفساد
يشير التقرير إلى أنّ الأطر القانونية لمكافحة الفساد شهدت بعض التحديث، إلا أنّ تطبيقها ما يزال محدوداً. ويرى الصندوق أنّ الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ليست ناشطة تماماً بما يخصّ التمويل الخارجي. كما أنّ المؤسسات الرقابية الأخرى، مثل ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي تعانيان من ضعف الموارد والصلاحيات، فضلاً عن أنّ قوانين الشفافية قلّما تطبّق عملياً.
يسلّط التقرير الضوء على القضاء، مشيراً إلى ضعف استقلاليّته وتأثّره بالتجاذبات السياسية والطائفية، بالإضافة إلى نقص الموارد والكوادر، ما يؤدّي إلى تراكم القضايا وتأخير البتّ بها، ويقوّض فاعلية النظام القضائي في فرض سيادة القانون.